د. سماء سليمان
على مدى السنوات القليلة الماضية، أدت تحركات الصين لبناء قواتها البحرية وممارسة نشاطات تواجدها البحري إلى زيادة المخاوف بشأن الاستقرار في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. فقد أصبحت المطالب الإقليمية الصينية المتزايدة في بحر الصين الجنوبي، تكثف من درجة الاحتكاك مع اليابان على ثماني جزر تسميها اليابان “سنكاكو” وتُعرف في الصين باسم “دياويو” حتى أصبحت تتصدر قائمة القضايا الإقليمية التي تُجابه المجتمع الدولي.
وأخذت الصين تسعى إلى تغيير ميزان القوى الحالي السائد في المنطقة وذلك من خلال تطبيق استراتيجية ما يُعرف بالحرمان (أي حظر الدخول، وحظر التحليق الجوي) وهي استراتيجية تهدف إلى استبعاد النفوذ العسكري الأمريكي حول المياه الإقليمية الصينية وغرب المحيط الهادئ. وكان رد فعل اليابان مؤخرا هو إقرار وزارة الدفاع اليابانية في ديسمبر 2018، برنامجها الجديد لتعزيز الدفاع الوطنى للسنوات الـ 10 القادمة، والتي تخطط لإنفاق 238 مليار دولار خلال السنوات الـ 5 الأولى لتنفيذ هذا البرنامج، كما يقضى البرنامج بإنتاج أول حاملة طائرات وإضافتها لأسطولها- وذلك لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية- كما ستشترى الحكومة اليابانية فى السنوات الـ 10 المقبلة 18 مقاتلة أمريكية من طراز “أف-38 بى”؛ بهدف نشرها على حاملة الطائرات، بالإضافة إلى نشر منظومة “إيجوس أشور” البرية للدفاع المضاد للصواريخ؛ وذلك في الفترة الزمنية نفسها، وهو ما يدعو للتساؤل عن مستقبل الصراع في بحر الصين؟
تاريخ النزاع حول جزر سنكاكو/دياويو:
تقع هذه الجزر المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، وهي عبارة عن ثماني جزر صخرية غير مأهولة يتراوح الاحتياطي النفطي في هذا البحر بين 60 و100 مليون برميل من النفط، في حين يوجد احتياطي مهم من الغاز الطبيعي يتراوح بين 1 و2 تريليون قدم مكعب، حسب تقديرات إدارة المعلومات حول الطاقة (EIA) التابعة للحكومة الأميركية، ويحوي هذا البحر أيضًا ثروات معدنية مهمة مثل الأحجار المرجانية الثمينة والزركون والذهب والتيتانيوم والبلاتين.
بالإضافة إلى وجود هذه الثروات الطبيعية فإن للجزر قيمة استراتيجية للبلدين معًا بفعل موقعها الاستراتيجي؛ فالسيادة على هذه الجزر ستسمح لليابان أو الصين بالمطالبة باستغلال 40.000 كيلومتر مربع من المياه المحيطة بها باعتبارها منطقة اقتصادية خالصة، كما يمكن استغلال الجزر عسكريًا؛ فالصين تخشى أن تقيم اليابان نظم استطلاع جوية وبحرية تضع الخطوط البحرية والجوية في المنطقة وفي مناطق صينية مثل “وينزهو” و”نينغ بو” تحت المراقبة المباشرة لليابانيين، ويرى الصينيون في هذا تهديدًا أمنيًا وعسكريًا خطيرًا، والجزر تابعة فعليًا للإدارة اليابانية، لكن الصين تطالب بها باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من أراضيها.
وجهة النظر الصينية:
تقول الصين إن الجزر تقع تحت سيادتها بناء على الحقائق التاريخية؛ حيث ترى أن الجزر كانت تابعة لها منذ القدم، وظهرت على الخرائط كجزء من الأراضي الصينية ابتداء من عهد أسرة “مينغ”(1368-1644)، كما توجد كتب تتحدث عن تبعية هذه الجزر للصين يعود تاريخها إلى عام 1424، أي ما يزيد عن أربعة قرون من التاريخ الذي اكتشفت فيه اليابان هذه الجزر (1884). ولكن بعد انتصار اليابان في الحرب الصينية اليابانية الأولى سنة 1895، تنازلت الصين حينها عن سيادة هذه الجزر بالإضافة إلى جزيرة تايوان لصالح اليابان بموجب اتفاقية “شيمونوسكي”.
وبعد هزيمة اليابان تمت إعادة هذه الجزر إلى الصين وفقًا لإعلان القاهرة سنة 1945، وفي 1951 ألحقت الولايات المتحدة جزر سنكاكو/دياويو بالإدارة المدنية التي أقامتها في جزيرة “أوكيناوا” بموجب اتفاقية سان فرانسيسكو، وفي سنة 1972 سلّمت الولايات المتحدة “أوكيناوا “والجزر الملحقة بها إلى اليابان بالرغم من اعتراض كل من تايوان والصين.
وجهة النظر اليابانية:
ترى اليابان أنها صاحبة السيادة بناء على حقائق تاريخية أيضًا؛ فالجزر جزء لا يتجزأ من جزر “نانسي” “شوتو” اليابانية، وأصبحت، ابتداء من سنة 1884، جزءًا من أراضيها بعد المسح الذي أجرته مقاطعة “أوكيناوا”. وتضيف اليابان إنه لا توجد أية آثار تدل على تبعيتها لمملكة أسرة “تشينغ” الصينية، وتنفي أن تكون جزر سنكاكو/دياويو تابعة لجزيرة تايوان أو جزر “بيسكادوريس” التي تنازلت عنها الصين لصالح اليابان سنة 1895؛ فالحكومتان الصينية والتايوانية طالبتا بهذه الجزر بعد أن أظهرت دراسة أجرتها الأمم المتحدة في سبعينيات القرن الماضي احتمال توفر المنطقة على إمكانيات مهمة من الطاقة.
أصبح النزاع حول هذه الجزر الصغيرة، في السنوات الأخيرة، المصدر الرئيسي للتوتر في العلاقة بين الصين واليابان، وساءت العلاقة بشكل كبير بين البلدين بعد قرار الحكومة اليابانية القاضي بشراء ثلاثة من الجزر الخمسة وتأميمها في سبتمبر 2012. ويبدو أن التصعيد سيبقى مع بقاء “شينزو آبي” في الحكم، خصوصًا وأن حزبه -الحزب الليبرالي الديمقراطي- تعهد خلال حملته الانتخابية بتعزيز القدرات العسكرية اليابانية لمواجهة المواقف العدائية للصين في بحر الصين الشرقي، وتطوير عمليات الصيد في جزر سينكاكو/دياويو. هذا بالإضافة إلى أن البلدين أغلقا باب التفاوض وينفيان وجود نزاع حول الجزر ويتمسك كل طرف بحقه السيادي دون تقديم أي تنازل أو محاولة لإيجاد أرضية مشتركة للحوار.
لا تقتصر الخلافات بين الصين واليابان على جزر سينكاكو/دياويو ولكن يوجد قضيتين بحريتين، تتمحور الأولى حول ترسيم وامتداد الحدود البحرية لكل بلد داخل بحر الصين الشرقي، وتتمثل الثانية حول شعب مرجانية تعرف بـ “أوكينو توريشيما”، تقع على مسافة 1100 ميل شرقي طوكيو. لكن لا تدعي الصين سيادتها على هذه الشعاب، لكنها ترفض استعمالها من طرف اليابان للمطالبة بمنطقة اقتصادية خالصة في غرب المحيط الهادي لأن الصين تعتبرها مجرد صخرة وليست جزيرة.
تداعيات النزاع على الجزر:
1-اتجهت اليابان نحو إعادة التوازن بين علاقاتها مع الولايات المتحدة ففي سنة 2008، قدّم الحزب الديمقراطي الياباني “رؤية أوكيناوا” التي دعت إلى نقل القاعدة الأميركية خارج “أوكيناوا” أو حتى خارج اليابان. وعندما وصل الحزب إلى الحكم بقيادة “يوكيو هاتوياما” سنة 2009، رفض تجديد فترة عمل السفن الحربية اليابانية في المحيط الهندي ضمن الحرب التي تقوم بها الولايات المتحدة في أفغانستان.
2-بدأت اليابان في بناء قدراتها العسكرية بشكل تدريجي، وتطوير علاقاتها الأمنية والعسكرية مع دول مثل الهند وأستراليا، وبناء علاقات عسكرية مع الدول التي تشارك اليابان مخاوفها تجاه الصين. وتدخل في هذا الإطار إستراتيجية “الماسة الديمقراطية الأمنية” التي تحاول اليابان عبرها احتواء الصين. فقد عبّر “آبي” بصراحة شديدة عن رفضه لتحول بحر الصين الشرقي إلى بحيرة صينية ورغبته في إنشاء “عقد أمني ديمقراطي”، يضم اليابان والهند وأستراليا وولاية هاواي الأميركية، من أجل حماية حرية الإبحار عبر المحيطين الهندي والهادي، كما خففت الحكومة اليابانية من الحظر الذي تفرضه على تصدير الأسلحة إلى الخارج منذ 1967، مما سيسمح لصناعاتها الدفاعية بتطوير مشاريع مشتركة مع الدول الأجنبية.
3-اتجهت اليابان أيضا نحو إعادة التوازن مع علاقاتها مع الجوار الآسيوي عبر التركيز على بناء تجمع شرق آسيا East Asian Community، كما أنشأت مع الهند تحالفا غير رسميا في سبتمبر 2017، حيث تعاونتا في بناء خط سكك حديد للقاطرات السريعة يربط بين مدينتي مومباي وأحمد آباد. مما يعني أن نيودلهي وطوكيو تعززان تعاونهما في مجالي الدفاع والذرة للأغراض السلمية.
كما تخططان بجهود مشتركة لتنفيذ مشروع ممر التنمية في منطقة المحيط الهادئ الآسيوية وإفريقيا عبر بناء بنى تحتية عالية الجودة في بلدان آسيا وإفريقيا ؛ ما يمكن أن يصبح بديلا عن مشروع طريق الحرير الصيني، ويعوق بكين عن الهيمنة في آسيا وإفريقيا، وتسعى كلا البلدين إلى إرسال إشارة واضحة إلى بكين بأنهما ستؤازران بعضهما بعضا، مما يؤكد وقوف اليابان إلى جانب الهند في نزاعها الحدودي مع الصين.
ومن المتوقع أن تنسق البلدان نشاطهما في إفريقيا مع جهود الولايات المتحدة. وهذا يعني تشكيل تحالف ثلاثي غير رسمي، حيث إن البلدان الثلاثة تشارك دوريا في مناورات بحرية-عسكرية مشتركة، والهند بدأت تشتري أسلحة أمريكية، والأميرالات الأمريكيون يدعون إلى قيام السفن الحربية الأمريكية-اليابانية-الهندية بدوريات مشتركة في بحر الصين الجنوبي.
هذا، وقد ظهر للهند تهديدات وتحديات جديدة مثل النزاع الحدودي مع الصين، أو توسع التعاون الصيني–الباكستاني، ولذا تحاول الهند أن تبحث لها عن دور جدي في النظام العالمي الجديد، محاولة اتباع سياسة متوازنة بحيث تظل تقترب من خصوم الصين جيوسياسيا لأنها تدرك أنه لا بديل عن التعاون مع الصين.
4-اتجهت اليابان نحو التنافس على الذكاء الاصطناعي مع الصين، حيث تمتلك الصين ميزة في هذا المجال، لأن عمالقة التكنولوجيا مثل بايدو ومجموعة علي بابا القابضة وتينسنت هولدينجز تحصد كميات هائلة من البيانات من سكان البلاد البالغ عددهم 1.3 مليار نسمة، كما لا تسمح الصين بالاستفادة من هذه البيانات إلا داخليًا فقط، ولذا دعا رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في 24 يناير 2019، إلى إقامة نظام عالمي لتنظيم تدفق البيانات عبر الحدود في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بإتاحة التدفق الحر للمعلومات الطبية والصناعية وحركة المرور وغيرها من البيانات المفيدة وغير الشخصية والمجهولة لأن رفع الحواجز الوطنية أمام نقل البيانات يدفع النشاط الاقتصادي ويضيق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وتأمل اليابان في صياغة نهج متوازن ينظم نقل البيانات من أجل حماية الخصوصية والأمن، ويعد هذا النوع من البيانات الكبيرة مصدر للقدرة التنافسية للشركات، فكلما كان الحجم أكبر، كلما كان تطوير الذكاء الصناعي أكثر دقة والذي يمكن أن يؤدي إلى تنبؤات وتحسين الإنتاجية.
4- استمرار السياسة اليابانية تجاه قضية تايوان، وهو تحول بدأ منذ منتصف تسعينات القرن الماضي، تحت تأثير تنامي الارتباط الشديد بين الأمن القومي الياباني ومنطقة بحر الصين الجنوبي.
5- سعي اليابان إلى تعديل دستورها لتغيير مسار سياستها الدفاعية داخلياً وخارجياً، حيث عاد النقاش بزخم حول هيكلية ودور ومهام قوات الدفاع الذاتي استناداً إلي المادة التاسعة من الدستور الياباني، فتم تحديد دور هذه القوات بـ “حماية التراب الوطني الياباني من الأخطار الإقليمية، والتصدي لكل اعتداء تقليدي على طول سواحل الجزر اليابانية…”، وخارجياً من خلال تعزيز القدرة العسكرية لهذه القوات للتدخل على مسرح العمليات الخارجية في إطار مهمات حفظ السلام التي تقررها الأمم المتحدة بهدف تأمين دمج السياسة اليابانية في النظام الدولي الجديد، وقد شهد عقد التسعينيات تطوراً مهماً أيضاً، تمثل بقرار اتخذته الإدارة الأميركية، وأثر بشكل واضح في استراتيجية اليابان، وقضى بتخفيض القوات العسكرية الأميركية المنتشرة في المنطقة.
مستقبل قضية الجزر:
يمكن استبعاد الحل العسكري في قضية الجزر لأنه لو اختارت الصين اتخاذ موقف متصلب من النزاع أو محاولة حسم النزاع عسكريًا فإنها ستثير مخاوف الدول التي تتنازع السيادة معها على مجموعة من الجزر في بحر الصين الجنوبي والدول الأخرى مثل الهند التي لها مشاكل حدودية مع الصين والتي بدأت تتحالف مع اليابان استراتيجيا، كما أن الحل العسكري قد يجر الولايات المتحدة إلى براثن النزاع؛ حيث أكدت الولايات المتحدة على أن الجزر المتنازع عليها تقع تحت السلطة الإدارية لليابان وبالتالي فهي تدخل في إطار الاتفاقية الأمنية بين الولايات المتحدة الأميركية واليابان.
وأخيرا، يمكن القول أن بحر الصين الشرقي يمثل منطقة إستراتيجية حيوية، ليس للصين واليابان فقط بل للولايات المتحدة وكوريا أيضًا، ويبدو أن الأسباب الداخلية الخاصة بانتقال السلطة من الجيل الرابع إلى الجيل الخامس في الصين، وعودة “شينزو آبي” إلى هرم السلطة اليابانية بأجندة متشددة تجاه الصين، إضافة إلى أسباب جيوإستراتيجية تتمثل في الأهمية الإستراتيجية لبحر الصين الشرقي مع تغير مركز الثقل الاقتصادي العالمي إلى شرق آسيا، وتحويل الولايات المتحدة لتركيزها إلى منطقة آسيا-الباسيفيك، ووجود موارد طبيعية متنوعة وهائلة في هذا البحر، تدفع كل طرف إلى التشبث بمواقفه والامتناع عن تقديم أية تنازلات؛ مما يؤشّر على أن فرص تسوية الخلاف قليلة وأن الخلاف سيستمر بين البلدين لمدة طويلة، غير أن تشابك المصالح الاقتصادية بين البلدين وأهمية المنطقة للولايات المتحدة قد يحول دون تحول النزاع بين اليابان والصين إلى مواجهة مسلحة، ولو في المنظور القريب على الأقل.