د. سماء سليمان
خبير في الدراسات المستقبلية
تحظى دراسة مستقبل حلف شمال الأطلسي ـ الناتو ـ من أهمية المتغيرات التي تطرأ بين فترة وأخرى، ومن ثم فإن هذه المتغيرات تجعل من التصورات السابقة لفهم دور ومستقبل الناتو غير صالحة ومضللِّة ـ إلى حد ما.
فقد
طرح الجدل حول مستقبل الناتو بعد انتهاء الحرب الباردة وزيادة الحديث حول طبيعة
النظام الدولي، ثم عاد الجدل مرة ثانية في عام 2011 مع حدوث الثورات في الدول
العربية وما شهدته من تداخل للتهديد الشرقي والجنوبي لحلف الناتو خاصة في الأزمة
السورية، ثم عاد الجدل بعد تولى الرئيس رونالد ترامب الرئاسة في الولايات المتحدة
الأمريكية والذي وصف
الحلف بأنه “شيء من الماضي”. كما تحدث عن ضرورة توزيع الاعباء بين
أمريكا والدول الأوروبية وخاصة وأن ذلك يطرح تحديا امام الدول
الأوروبية التي تعاني اقتصادياتها وفي الوقت الذي تسعى فيه روسيا لمنع الحلف من
التوسع وضم أعضاء
أوربيين جدد له، الأمر الذي يطرح إشكالية بين أمريكا وروسيا والدول الأوربية
الأعضاء في حلف الناتو، وبالتالي على ضوء هذه المتغيرات جاءت أهمية دراسة مستقبل
الحلف.
ولذا يطرح البحث تساؤلا رئيسيا وهو: ما هو مستقبل حلف الناتو في ظل التحولات الإقليمية والعالمية الراهنة؟
ثانيا: توصيف المتغيرات (Variable description)
: زيادة الانفاق من قبل الدول الأوروبية الاعضاء في الناتو
: سعى روسيا لغزو دولة أوروبية لمحاولة انضمامها للحلف
: تشكيل الاتحاد الأوربي لجيش أوروبي بعيدا عن حلف الناتو
: المطالبة بإلغاء عضوية تركيا في الحلف
بدابة، منذ انشاء حلف الناتو طبقا لمعاهدة شمال الأطلسي المنشئة للحلف في 4 أبريل عام 1949 فرضت كل مرحلة عددا من المتغيرات أكثر تهديدا للحلف من التي سبقتها، فبعد الحرب الباردة استطاع الحلف التكيف مع انتهاء الحرب الباردة من خلال تأسيس سلسلة من الشراكات حول العالم، منها مبادرة الحوار المتوسطي بين الحلف وسبع دول من حوض البحر المتوسط، من بينها مصر، ومبادرة اسطنبول للتعاون الاستراتيجي عام 2004 مع دول الخليج، كما أنشأ جهاز الدبلوماسية العامة المنوط به تغيير الصورة الذهنية السلبية عن الحلف. وتدخل الحلف بسبب كونه يمثل جيشا عالميا في بعض مناطق النزاعات خارج أراضي أعضائه، ومنها البوسنة عام 1995 ويوغوسلافيا عام 1999[i]، بالإضافة إلى قوات المساعدة الدولية في أفغانستان “إيساف” والتدخل في الأزمة الليبية عام 2011.
بدأت تطرح التحولات في العالم العربي تحديا أمام الحلف منذ عام 2011، حيث تشابكت جبهتي التهديد الشرقي الذي يضم كلا من باكستان وافغانستان وايران ودول آسيا الوسطى والتهديد الجنوبي ويضم دول شمال إفريقيا، والدول العربية التي تقع على البحر المتوسط خاصة في الأزمة السورية، وفي محاولة من الحلف للتكيف مع هذا التحدي أسس قوة تسمي “رأس الحربة” خلال “قمة ويلز” عام 2014، فضلا عن سعي الحلف للقيام بدور في دعم الأمن والاستقرار الإقليمي خاصة أن شركاء الحلف في مبادرة اسطنبول 2004، والحوار المتوسطي 1994، هم جزء من تلك التحولات، ولذا قرر الحلف الانضمام رسميا إلى عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش في سوريا. فضلا عن أن التدخل الروسي في أوركرانيا عام 2015 دفع الحلف إلى إجراء مناورات في البحر المتوسط في التاسع عشر من أكتوبر 2015[ii].
القوى المحركة:
موقف الولايات المتحدة من الحلف: مع تولى الرئيس الأمريكي رونالد ترامب والذي وصف الحلف بأنه “شيء من الماضي”، وعدم إيمانه بالمؤسسات متعددة الأطراف ومن ثم تحدث عن ضرورة توزيع الاعباء بين أمريكا والدول الأوروبية وطالبهم بالمساهمة بـ2% من الناتج المحلي الإجمالي في ميزانية الحلف[iii]، حيث وصف الدول الأوروبية بأنها “كالراكب المجاني” لعدم دفع اشتراكاتها في الحلف لسنوات طويلة فضلا عن ضعف نسبة مسامتها في ميزانية الحلف، ومن ثم فإن استمرار الموقف الأوروبي من شأنه أن يؤثر على موقف أمريكا من الحلف، والصحيح أنه لن يؤدي إلى سعيها إلى تفكيكه ولكنها ستمارس ضغوطا على الدول الأوروبية لزيادة مساهمتها في ميزانية الحلف وفي الالتزام بدفعها بشكل فيه استمرارية.
الانفاق الأوروبي على حلف الناتو: انتقدت إدارة ترامب -قبيل قمة حلف شمال الأطلسي “ناتو” لعام 2018 – الإنفاق العسكري للشركاء في “الناتو”، حيث قال الرئيس الأمريكي، إنه في حال إجراء مقارنة بين الإنفاق العسكري الألماني والأمريكي، فإن قيمة الإنفاق العسكري لألمانيا قياسًا إلى ناتجها المحلي، تبلغ 1%، في حين تنفق الولايات المتحدة 4% من ناتجها المحلي، وأشار إلى أن الحلفاء الأوروبيين في “الناتو”، استغلوا قدرات الولايات المتحدة العسكرية في الحلف بشكل أكبر من استفادتها منهم، مؤكدًا على عدم إمكانية القبول باستمرار هذا الوضع[iv].
التنسيق العسكري بين الدول الأوروبية لتقليل الاعتماد على أمريكا (جيش أوروبا): سعى ماكرون منذ توليه رئاسة فرنسا إلى تقليل النفوذ الأمريكي على القارة الأوروبية مما دفعه للدعوة لتشكيل جيش أوروبي، حيث قامت فرنسا متحالفة مع ثماني دول أوروبية بإنشاء قوة مشتركة للتدخل العسكري، ويهدف المشروع، إلى تبسيط إجراءات العمل المشترك على صعيد التعاون الاستراتيجي في المهمات ذات الأهمية الأمنية بالنسبة لأوروبا، وقد تتطرق لمهام إنسانية أيضًا، وهناك بعض التكهنات بان ما يحدث في فرنسا من اضطرابات عنيفة بسبب رغبة فرنسا في تقليل تأثير أمريكا ودور الحلف في أوروبا.
مخاوف أمنية (توسيع عضوية الحلف- غزو روسي لدول البلطيق) [v]: يواجه الحلف متغير مهم خاص بقدرته على التوسع وجذب اعضاء جدد للحلف وفي الوقت نفسه يواجه إشكالية رفض روسيا لهذا التوسع خاصة وأن الدول المرشحة للانضمام كانت تابعة للاتحادالسوفيتي السابق وربما تقوم بعمل دراماتيكي لمنع انضمامهم، ففي عام 2017 انضم إلى الحلف الجبل الأسود وعرض على مقدونيا في عام 2018. فمن الأعضاء المحتملين الدول المتبقية في يوغوسلافيا السابقة: البوسنة والهرسك، وصربيا، وكوسوفو هي آخر الدول اليوغسلافية السابقة المتبقية التي لم تنضم إلى حلف الناتو.
حيث تجنبت صربيا العضوية لصالح الحياد العسكري، وتوازن نفسها جيوسياسيًا بين روسيا والغرب. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن يتم إيقاف أي محاولة للبوسنة للانضمام إلى حلف الناتو من قبل صرب البوسنة، الذين يشكلون أكثر من 30٪ من سكان البلاد والذين يمكنهم الاعتماد على دعم صربيا أو روسيا. بالنسبة لانضمام البوسنة أو صربيا إلى حلف شمال الأطلنطي، فإن ذلك يتطلب تحولا سياسيا كبيرا في بانيا لوكا وبلغراد، وهو أمر غير مرجح على المدى القريب، ولكن ليس مستحيلا. من جانب آخر تتمتع كوسوفو بموقف قوي مؤيد للغرب، ولديها بالفعل ضمانات أمنية لحلف الناتو من خلال وجود قوات الناتو هناك منذ عام 1999.
جورجيا وأوكرانيا ومولدوفا: تسعى جورجيا للحصول على
عضوية حلف الناتو منذ عام 1999، وهو موقف دفع جزئياً روسيا إلى غزوها لفترة وجيزة في أغسطس
2008. وأدى الغزو الروسي إلى انفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا واعتراف
موسكو بها كدول ذات سيادة، وهذا ما يجعل حلف الناتو مترددًا في دعوة جورجيا
للانضمام إليه، لأن دعوة كهذه من شأنها أن تؤدي إلى عمل عسكري روسي.
سعت روسيا أيضا إلى منع انضمام أوكرانيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي، وفي أوائل عام 2014، استولت على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا وبدأت في دعم المتمردين الانفصاليين في الجزء الشرقي من البلاد. ومما كان غير متوقعا أن هذه الاجراءات الروسية تجاه أوكرانيا قد عززت من مطالب أوكرانيا للانضمام للحلف، حيث أظهر استطلاع للرأي في شهر يوليو عام 2018 أن حوالي (45٪) من الرأي العام مؤيد الانضمام للحلف ومع ذلك يصعب توقع أنه في حالة إجراء استفتاء شعبي ستكون النتيجة لصالح الانضمام، ومن ثم، فإن المواجهة مع روسيا جعلت حلف الناتو غير راغب في دعوة أوكرانيا للانضمام إليه، خوفًا من الانجرار إلى صراع واسع النطاق.
ومن غير المحتمل أن تتمكن مولدوفا من التوصل إلى إجماع وطني حول عضوية حلف الناتو، حيث ينقسم البلد بشكل دقيق بين القوى السياسية الموالية للغرب والمؤيدة لروسيا، حتى مع استبعاد منطقة ترانسنيستريا الانفصالية الموالية لروسيا.
يمكن القول أن كلا من جورجيا وأوكرانيا ومولدوفا ستبقى خارج حلف الناتو في المستقبل القريب. ومن المرجح أن تتم دعوتهم للانضمام إلى حلف الناتو في حالة حدوث ضعف كارثي في روسيا الاتحادية، مقارنة بمرحلة التسعينيات.
بالنسبة لكلا من فنلندا والسويد فإن كلاهما بلدانًا محايدة، على الرغم من التوافق السويدي الموالي للغرب على نطاق واسع ومشاركته في بعثات الناتو من البلقان وحتى افغانستان وكذلك في ليبيا في إطار الشراكة وليس كعضو في الناتو[vi]، وإقامة فنلندا علاقات قوية مع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية أثناء الحرب الباردة. فضلا عن كونهما دولتين حيويتين لأمن منطقة البلطيق، وما يرجح استبعاد انضمام الدولتين للحلف هو ما أظهرته استطلاعات الرأي حول انضمام فنلندا لحلف الناتو أن أقل من 25٪ في فنلندا و35% في السويد مع عضوية التجمعات.
إن أي محاولة من جانب فنلندا أو السويد للانضمام إلى حلف الناتو ستعتبر تهديدًا خطيرًا لروسيا. وستعني عضوية فنلندا توسعا هائلا في الحدود المشتركة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، في حين أن انضمام السويد جنبا إلى جنب مع فنلندا من شأنه أن يحول كامل بحر البلطيق إلى “بحيرة تابعة للناتو” ، مما يشكل تحديا كبيرا لقدرات الإسقاط الروسي في مجال الطاقة في المنطقة، خاصة على ضوء مد روسيا لخط انبوب غاز السيل الشمالي عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا مباشرة مما يجعل روسيا معارض شديد لتحول البحر إلى دول منضمة للحلف خاصة أن السويد تمثل الشاطيء الغربي للبحر ومن ثم عدم انضمامها يعني ضمان روسيا تأمين مصالحها عبر بحر البلطيق، ولذا عندما اعلنت السويد عزمها الانضمام للحلف اعلنت روسيا قيام حرب باردة بينهما مما جعلها تتراجع عن اعلانها هذا، وهو ما لا يستبعد معه قيام روسيا بعمل عسكري أو غزو للسويد أو فنلندا، بشكل عام، من ثم من المتوقع أن تتجنب كلا من فنلندا والسويد الانضمام إلى حلف الناتو خوفًا من استفزاز روسيا. ومع ذلك، سيحتفظ كلاهما وربما سيعززان التعاون مع الحلف.
عضوية تركيا في “الناتو” والاستعداد للأجندة القادمة: هناك العديد من الكتابات التي توقعت إلغاء عضوية تركيا في حلف الناتو، ولكن وجود التهديدات والاضطرابات في الحدود الجنوبية والشرقية للحلف، يجعل تركيا تحتل موقعًا ذا أهمية للناتو، وهو ما أظهرته قمة الناتو الأخيرة في يوليو 2018، حيث تم التأكيد خلالها على عدم إمكانية التخلي عن تركيا، بسبب دورها الكبير في ضبط تدفق المهاجرين السوريين، وقدراتها الكبيرة في مواجهة تهديدات الحروب الهجينة، كما أنها ستستلم عام 2021، قيادة القوات المشتركة عالية الجاهزية، ما يتيح لها فرصًا مهمة في المشاركة في مستويات عالية بالبعثة التدريبية في العراق، فضلا عن امتلاكها قدرات عسكرية كبيرة ساهمت في القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي غربي نهر الفرات-من وجهة نظرها-، كما تمتلك تركيا تجارب كبيرة من عمليتي “غصن الفرات”، و”درع الزيتون”؛ فضلاً عن الدور الاستخباراتي الكبير الذي تؤديه في مواجهة الإرهابيين الأجانب، من خلال إحكامها السيطرة على حدودها مع كل من سوريا والعراق[vii].
وبالنظر إلى البيان الختامي لقمة بروكسل 2018، يمكن القول أن لتركيا أهمية في ثلاثة جوانب؛ أولها، حزمة الإجراءات الأمنية الإضافية والدعم العسكري الذي قدمه “الناتو”؛ إثر احتدام الصراع في سوريا، ثانيها، أن كل من تركيا، ورومانيا، وبولونيا، وإسبانيا، تحتل أهمية كبرى ضمن إطار مشروع “الناتو” للدرع الصاروخي، وثالثها، الإشارة إلى خطر الصواريخ البالستية السورية على الأمن القومي التركي[viii].
ولذلك يبدو التهديد بإلغاء عضوية تركيا في حلف
“الناتو”، أمرًا مستبعدا، حيث لم تبين الأطراف التي تنادي في هذا الشأن، كيفية ملئ
الفراغ الذي سينجم عن مغادرة تركيا للحلف.الرؤية العسكرية الجديدة
لـ”الناتو”: اتخذ
الحلف واحدة من الاحتياطات التي اتخذها “الناتو” في مواجهة قدرات الحرب الهجينة
الروسية، التي شهدت تطورًا كبيرًا خلال السنوات الأربع الأخيرة. حيث كان من أهم
نتائج قمة “الناتو” التي انعقدت في يوليو 2018، من النواحي العسكرية والاستراتيجية
والعملياتية، هو اتخاذ قرار تفعيل المشروع الأمريكي “30 ×4″، الذي يحمل اسم “مبادرة جاهزية الناتو”، وتنص المبادرة
باختصار على تعهد دول حلف شمال الأطلسي بنشر 30 كتيبة قوات برية، و30 سرب طائرات،
و30 سفينة مقاتلة، خلال 30 يومًا، لدى وقوع الأزمات. كما اتخذ “الناتو” خطوات
حساسة عديدة منذ قمة ويلز عام 2014، مثل رفع عدد عناصر قوات المواجهة إلى 40 ألف
عنصر، وتمركز قوات مشتركة عالية الجاهزية قوامها 5 آلاف جندي في الأماكن التي ترى
أنها بحاجة لذلك؛ فضلا عن إرساله قوات إلى كل من بولندا ودول البلطيق.
السيناريوهات المستقبلية:
يمكن طرح أربعة سيناريوهات لمستقبل الحلف كالتالي:
السيناريو الأول: الوضع الراهن “الركود الحميد”:
في حالة فشل حلف شمال الأطلسي في إجراء أي تغييرات كبيرة من حيث تلبية المساهمة بـ 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي لاسترضاء انتقادات الولايات المتحدة للتحالف. فإن ذلك سيتسبب في أن تتخذ إدارة ترامب أو من يخلفها موقفاً نقدياً متزايداً تجاه الدول الأوروبية، مما يتركها مهمشة في السياسة العالمية. وفي الوقت نفسه، تتسبب المخاوف الأمنية من توسيع اعضاء الحلف وسعى روسيا لغزو الدول المنضمة في أن يصبح التحالف مشلولا بشكل متزايد في الأزمات المستقبلية. أيضًا، تواصل تركيا النمو أكثر بعيدًا عن الحلف، وتتحرك لتعزيز العلاقات مع روسيا والصين. كل ذلك سوف يصب في استمرار الحلف على وضعه الحالي، ولكنه سيميل بشكل متزايد ليشبه تنظيمًا سياسيًا وليس تحالفًا عسكريًا.
السيناريو الثاني(المتفائل): استمرار الحلف (تنامي النفوذ):
أن استمرار الحلف مرهون بزيادة انفاق الدول الأوروبية لمساهمتها في ميزانية الحلف، بناء على طلب الولايات المتحدة الأمريكية التي تسهم بأكثر من ثلثي ميزانية الحلف، حيث اعترض ترامب على حالة عدم المساواة في تقاسم الأعباء بين الولايات المتحدة، وبقية أعضاء الحلف بشأن الإسهام في ميزانية الحلف، خاصة أن هناك خمس دول فقط من بين 28 دولة أعضاء الحلف تفي بالتزاماتها من حيث تحديد نفقاتها الدفاعية بنسبة 2% في الحد الأدني من الناتج الإجمالي المحلي، وهي الولايات المتحدة، وبريطانيا، واليونان، وبولندا، واستراليا، خاصة أن الناتج الإجمالي المحلي لدول الاتحاد الأوروبي مجتمعة أقل من 17 تريليون دولار أمريكي، وهو ما يقل عن الناتج الإجمالي المحلي للولايات المتحدة بقيمة تزيد على تريليون دولار. كما أن هناك فارقا شاسعا في الميزانيات العسكرية للجانبين. ففي حين تبلغ النفقات الدفاعية للولايات المتحدة نحو 618.7 مليار دولار أمريكي، في حين لا تتجاوز نفقات دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة 219 مليار دولار أمريكي.
ومن ثم فإن زيادة الانفاق الأوروبي على الحلف من شأنه تقليل تحديات أمن أوروبا ومن ثم يحافظ على عدم انكشافها الاستراتيجي أمام النفوذ الروسي المتنامي، لاسيما دول البلطيق الثلاث “استونيا، ولاتفيا، وليتوانيا”. وهذا ما يعزز استمرار الحلف، وما يؤكد ذلك ما أشار إليه الرئيس الأمريكي، خلال إلقاء خطاب التنصيب، بالقول “سنعزز تحالفاتنا القديمة”. ويعني ذلك إدراك الولايات المتحدة الأهمية الاستراتيجية للحلف[i]، على ضوء دور دول الحلف في دعم الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وكذلك الدعم الأوروبي للولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب في أفغانستان، حيث بلغ عدد القتلي الأوروبيين ألف قتيل”. ويؤكد ما سبق أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي سيظلان بحاجة إلى حلف الناتو خاصة لملء الفراغ الذي قد تشهده منطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق[ii].
السيناريو الثالث(الأسوأ) : تفكك الحلف(تأسيس جيش أوروبي):
أن تلجأ الدول الأوروبية الاعضاء في الناتو إلى زيادة انفاقها العسكري ولكن ليس لصالح الحلف بل لصالح البدائل المطروحة وأهمها تأسيس جيش أوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا يتحمل المزيد من المسؤولية عن الأمن الأوروبي. بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما يكثفون أيضاً من تنسيقهم العسكري ليجعلوا أنفسهم أقل اعتماداً على الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت للحيلولة دون توسع النفوذ الروسي في القارة، ومنع أي محاولات غزو روسية للدول الأوروبية وخاصة دول البلطيق، وهو ما من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة إلى الانسحاب من حلف شمال الأطلسي بهدف تركيز المزيد من مواردها العسكرية على منطقة المحيط الهندي والهادئ ، أو الشرق الأوسط، أو نصف الكرة الأرضية الخاص بها.
يمكن لتركيا، التي تتعارض على نحو متزايد مع أعضاء الاتحاد الأوروبي ، أن تلجأ لإقامة علاقات دفاع وثيقة مع روسيا أو الصين[iii]، أو كليهما من خلال منظمة تعاون شنغهاي.
السينايو الرابع: سيناريو الحرب
سيكون بداية هذا السيناريو بإعلان احدى الدول
الأوروبية رغبتها في الانضمام للحلف وسعيها لاجراء استفتاء شعبي مثلما تم كان مزمع
حدوثه في أوكرانيا، خاصة بعد إجراء استطلاع رأي في يوليو عام 2018، وأظهر أن 45%
مؤيدة الانضمام للحلف، في هذه الحالة يمكن توقع غزو روسي لأوكرانيا ويمكن التنبؤ
بأن ما يحدث بين روسيا وأوكرانيا الآن من حجز سفن أوكرانية هو ارهاصات لتحرك عسكري
مرتقب أو تمهيد أو تهديد بغزو وذلك مع استمرار معدل إنفاق الدول الاعضاء في الحلف على
نمط انفاقها، وهو ما سيترتب عليه تدخل الحلف لإيقاف روسيا عن غزوها لدولة ترغب في
الانضمام إليه رغم أنها فعليا ليست عضو ومن ثم لا ينطبق عليها المادة الخامسة
للدفاع.ختاما، مع المتغيرات المتلاحقة والصراع الدولي بين كلا
من روسيا وأمريكا على اعتلاء قمة النظام الدولي، والرغبة المشتركة في بسط نفوذهما
على العالم، يمكن القول أن الوضع مفتوح أمام كافة السيناريوهات حسب المتغيرات التي
ستحدث على المستوى العالمي خاصة على صعيد قرار الدول الأوروبية بزيادة انفاقها على
الحلف لزيادة فاعليته كما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية، أو التطورات المتوقع
حدوثها في الدول الراغبة في الانضمام للحلف ورد فعل روسيا سواء كان بالتسليم برغبة
هذه الدول أو السعي لتحقيق أمنها القومي وفق مفاهيمها.
[iv] BURHANETTIN DURAN,The future of NATO after Brussels, July 13, 2018
[v] Fitch Solutions, The Future Of NATO Four Scenarios For The Coming Decade, 2 Aug, 2018.
تم نشره في مجلة السياسة الدولية
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.