ميرفت عوف
تُواصل إسرائيل ضرب الأراضي السوريّة بطائراتها العسكرية، لكنها تضع صوب عينها الأراضي العراقية، تحت ذريعة وقف تهديد النفوذ العسكري الإيراني في المنطقة انطلاقًا من العراق، ولذلك علت نبرة التهديدات الإسرائيلية نحو العراق في الفترة السابقة، فقد صرّح وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي جلعاد إردان بأنه «لا يمكن إلغاء إمكانية استخدام العراق قاعدةً عسكرية لإطلاق الصواريخ نحو إسرائيل، ويجب علينا أن نكون مستعدّين لمعركة متعدّدة الجبهات»، في الوقت الذي فيه يقول رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية الميجر جنرال تامير هايمان أن العراق «خاضع لنفوذ متزايد لقوّة القدس الإيرانيّة، الإيرانيّون يمكن أن يروا العراق مسرحًا ملائمًا للتمركز، مثل ما فعلوه في سوريا وأن يستخدموه منصّةً لحشد عسكري يمكن أن يهدد أيضًا دولة إسرائيل».
وبالتوازي مع التهديد العسكري، يواصل الإسرائيليّون استخدام «القوّة الناعمة» باعتبارها مقدّمة لأي عمل ميداني مسقبليّ قد يقدمون عليه ضد العراق، لكنهم يأملوا أكثر أن يحمِل المستقبل «السلام والحب» مع العراق حسب تعبيرهم، ولذلك تتغنّى وسائل الإعلام الإسرائيليّة بزيارة الوفود العراقية لأراضيها، وبأحلام الشباب العراقي بالوصول إليها من أجل العمل بها.
غزو إلكتروني ولقاءات غير رسميّة.. قوة إسرائيل الناعمة
بعد الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، نغّصت إيران المزاج الإسرائيلي حين عرفت كيف تملأ الفراغ السياسي والأمني في العراق، واستطاعت أن تخلق تهديدًا أمنيّا للإسرائيليّين، كاستمرار للتهديد الذي كان يشكّله نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين. ولعلّ المسؤولين الإسرائيليّين اعتقدوا أن عام 2003 الذي خلصهم فيه الحليف الأمريكي من نظام صدام هو عام العهد الجديد الآمن مع الجبهة العراقيّة، التي انطلقت منها في السابق صواريخ ضربت تل أبيب، لكن سرعان ما انتقلوا نحو العداء مع طهران التي وجدت لها مساحة نفوذ على الأرض العراقية.
لكن برغم مما سبق، لم يترك الإسرائيليون الساحة العراقية للنفوذ الإيراني دون مقاومة، ومضوا نحو خطوات تطبيعية متعدّدة، وكان حدث الانتخابات العراقية الأخيرة في مايو (أيار) الماضي مفصليًّا في دفع الإسرائيليين نحو العراق لمواجهة زيادة النفوذ الإيراني، حتى إن محللين إسرائيليين دعوا الحكومة لما سمّوه «إعادة اكتشاف حيدر العبادي»، وتقدير تصرّفاته وسياساته والبحث عن قنوات سرية للوصول إليه.
خطوات عملية أكثر اتخذتها إسرائيل لاختراق المجتمع العراقي، تمثّلت في إنشاء إسرائيل صفحة باللغة العربية اعتبرتها بمثابة «السفارة الرقمية في البلد الذي مزقته الحرب» كما قال مسؤول إسرائيلي، هي صفحة «إسرائيل باللهجة العراقية»، التي تخاطب العراقيين منذ مايو 2018، وتهتمّ بتفاصيل حياتهم، لذلك لا غرابة أن نجد منشورًا في أعقاب عملية تفجيرية وقعت في بغداد، يعلَّق: «إسرائيل تعبّر عن أساها وصدمتها لسقوط قتلى أبرياء في عمليات إرهابية وتأمل بأن يعود الهدوء والاستقرار إلى العراق وتمد يدها إلى جميع جيرانها وتتمنى ظروفًا تسمح بإقامة علاقات طبيعية معها وتعاون مثمر لمصلحة شعوب المنطقة».
كما أنشأت مجموعة فيسبوك باللغة العبرية تسمى «الحفاظ على اللغة العراقية» يشارك فيها نحو 50 ألف عضو، منهم من يقطن في العراق أو عراقيون يسكنون في الخارج، وتحدّث الإسرائيليون عن مشروع في النرويج يروج لمؤتمرات ولقاءات بين عراقيين وإسرائيليين من المجتمع المدني من أجل تباحث سبل السلام بين الدولتيْن.
كذلك يتّخذ الإسرائيليون من نموّ العلاقات التجارية مع العراق وسيلة قوّة ناعمة، ففي الثامن من يناير (كانون الثاني) 2019، أعلن وزير المالية الإسرائيلي موشيه كحلون عن شطب العراق من قائمة «دول العدو»، وجاء في نص المرسوم الذي يجيز التبادل التجاري مع بغداد: «بموجب سلطتي وفقًا للمادة 3 من الأمر التجاري رقم 1، أمنح المصادقة للإسرائيليين للتداول التجاري مع العراق حتى نهاية مارس (آذار) 2019».
ومنذ إسقاط نظام صدام، توقّع إسرائيل على مرسوم خاص يسمح بالتجارة مع العراق، إذ يشتري العراق من إسرائيل تجهيزات للري وآلات زراعية وأدوية وتجهيزات طبية وتقنيات اتصال، لكن هذه الأنشطة تتمّ عبر إقليم كردستان المعروف عنه علاقته القويّة بإسرائيل، ويعود الحديث عن العلاقات التجارية بين العراق وإسرائيل إلى عام 2012، حين كشفت وثائق «ويكيليكس» عن استخدام العراق لميناء حيفا للاستيراد والتصدير، وتظهر الوثائق إن إسرائيل أجازت لكبار رجال الأعمال والمصدّرين الإسرائيليين التعامل والاستثمار التجاري مع بغداد مباشرة، وما يرغّب العراق في استخدام هذا الميناء هو أن خط المواصلات «بغداد – عمان – حيفا» أرخص من ناحية تكاليف الشحن والاستيراد والتصدير إلى أوروبا، وهو أقصر مسافة مقارنة مع المسار البحري بالخليج العربي، كما كشف النقاب عن قيام شركات إسرائيلية بالاستثمار في إعادة إعمار العراق بتفويض من الاتحاد الأوروبي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
أما في العام 2016، فقد زار إسرائيل الدبلوماسي العراقي السابق حامد الشريفي، وزار «الكنيست» ووزارة الخارجية الإسرائيلية والمحكمة الإسرائيلية العليا والتقى عددًا من اليهود ذوي الأصول العراقية، أما في عام 2018 فزارت إسرائيلَ الفائزة بجائزة نوبل للسلام عام 2018 نادية مراد.لكن زيارة ملكة جمال العراق لسنة 2017 سارة عيدان لإسرائيل، واحدة من أكثر زيارات العراقيين ضجّة، فلم تكتفِ عيدان بنشر صورة لها مع نظيرتها الإسرائيلية أدار غاندلسمان، بل دعت في زيارتها الأولى لإسرائيل إلى ما أسمته «التعايش والسلم الإقليمي»، ونقل عنها القول: «سافرت لآلاف الأميال وعرّضت حياتي للخطر ليس للتعبير فقط عن مدى شعورنا بالسأم من هذه الحرب التي لا نهاية لها بين بلدينا».
ويتحدث الإسرائيليون عن تشكيل ما يشبه «اللوبي الإسرائيلي» في بغداد نكايةً ومواجهةً للنفوذ الإيراني في العاصمة العراقية، كما يرتكز الاطمئنان الإسرائيلي للتقارب مع العراقيين، اعتبارهم أنّ الشيعة في العراق يحمّلون الفلسطينيين وزر ما تعرضوا له نتيجة تأييدهم للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، لتأتي لاحقًا ذريعة أن الفلسطينيين «هم أكثر الانتحاريين في العراق» حسب المحلّلين الإسرائيليّين.
فيما يقول الكاتب الإسرائيلي بصحيفة معاريف جاكي خوجي أن غالبية الجمهور العراقي «غير منشغل كثيرًا بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ورغم أن بعضهم ينظر باشمئزاز لإسرائيل، والبعض الآخر من بقايا عهد صدام، فقد نشأت فئة ثالثة بين العراقيين تدعو لتجديد الاتصالات مع اليهود، وباتت بغداد تشهد لوبي إسرائيليًا». ومع إشارته إلى وجود معارضة كبيرة من اللوبي الإيراني ببغداد أضاف: «إذا نجح اليهود والشيعة بتحييد أجندة إيران، وبقايا إرث حزب البعث العراقي، فإنهما لن يجدا سببًا منطقيًا لإبقاء العداء تجاه إسرائيل، لأن غالبية الدول العربية، ومن بينها الدولة الفلسطينية ذاتها، لديها علاقات مع تل أبيب».
كيف استغلّت إسرائيل يهود العراق؟
هناك تاريخ حافل يجمع اليهود ببلاد الرافدين بعد أن عاشوا فيها أكثر من 2500 عام، إذ إن المنحدرين من بلاد الرافدين ما يزالون يحملون ذكرياتهم ومساهماتهم في بناء العراق الحديث. *جزء مما كتب على صفحة «إسرائيل باللهجة العراقية»
تعتمد الدبلوماسية الناعمة لإسرائيل على الاستغلال الجيّد لورقة اليهود العراقيين في تحقيق الكثير من الإنجازات في ملف التطبيع مع العراق، فهؤلاء الحاضرون بمعرض بغداد الدولي للكتاب في أبريل (نيسان) 2018 اعتبرتهم الأطراف الاسرائيليّة «بشائر تقارب ثقافي مدني بين العراق وإسرائيل»، أو كما ذكرت صفحة «إسرائيل باللغة العربية» أن: «هذا الانفتاح المبارك سيساهم في بناء جسور من المعرفة والثقافة والتقارب بين المثقفين العراقيين والإسرائيليين وعلى الأخص من هم من جذور عراقية، السلام الحقيقي يبنى من الجذور».
وفي وقت يقول الإسرائيليون فيه إن التواصل الإلكتروني بين العراقيين والإسرائيليين تحوّل إلى «أمر روتيني» بفضل صفحات التواصل الاجتماعي التي خصصتها إسرائيل لمخاطبة العراقيين، يضاعف بعض اليهود العراقيين من جهدهم في تفعيل صفحة «إسرائيل باللهجة العراقية»، ويدعم هؤلاء نشر مقالات عدد من الصحف العراقية تندد بالقرارات الخاطئة من وجهة نظرهم التي نصت على نزع الجنسية العراقية من غالبية اليهود العراقيين عقب إقامة دولة إسرائيل، كما أنهم باتوا يتلقون في الآونة الأخيرة رسائل دعم لإسرائيل مرفقة بجوازات سفر عراقية، حيث يريد هؤلاء الوصول إلى إسرائيل لزيارتها، أو العمل فيها، أو الهجرة إليها.
تقول الصحافية الإسرائيلية ليندا منوحين عبد العزيز، وهي ذات أصول عراقية: «هم يحافظون على تواصل دائم، العراقيون في الشتات يتواصلون مع الإسرائيليين، يلتقون بهم في الخارج، والمثير هو أنه بعكس لقاءات مع آخرين من الدول العربية، فإنه لا يوجد عداوة مع العراقيين، لا توجد أعباء، لا اتهامات متبادلة وكأنهم يلتقون على محض الصداقة». وتضيف منوحين: «بكل تواضع، أعتقد أنه هناك علاقة، العراقيون يتأثرون ويندهشون من حقيقة أن اليهود الذين فروا من العراق الى إسرائيل يتمسكون بتاريخهم ويثمنون هذه الثقافة، الموسيقى العراقية بدأت تقتحم التيار المركزي الإسرائيلي، واليوم الجيل الثالث يظهر اهتمامًا باللغة التي سمعوها من أجدادهم».
وتنظر إسرائيل بعين الامتنان إلى العديد من يهود العراق الذين أدّوا أدوارًا مهمّة لها، وهي لا تكفّ عن الترويج لإسهاماتهم وتعلّقهم المتواصل بالعراق وثقافته، فهم من أسّسوا فرقة المستعربين، وساهموا في تفكيك المصطلحات المشفّرة للتنظيمات الفلسطينية والجيوش العربية، وكان لهم دورهم في التنصت على اتصال شهير بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والملك الأردني الراحل حسين، عشية اندلاع حرب الأيام الستة عام 1967.
يُذكر أنّ اليهود في العراق كانوا يملكون عقارات متميزة بموقعها التجاري في بغداد، وكانت لديهم البيوت والأسواق والخانات، والمراكز الثقافية والدينية، بعضها مختوم عمرانيًا بنجمة داوود، وشكّلوا مجموعة ناشطة اقتصاديًا وثريّة، إلّا أنهم نزحوا بشكل جماعي بعد قيام «دولة إسرائيل» عام 1948، مما دفع الحكومة العراقية إلى إقرار قانون إسقاط الجنسية عمّن غادر دون تنسيق مع الحكومة، كما صدر قانون آخر يقضي بتجميد أموال المغادرين.
وتقول الإحصاءات إن عدد أملاك اليهود كان 12.736 عقارًا، موزّعة في عموم محافظات العراق، والآن ترتفع أصواتهم للمطالبة بتعويضهم عن أملاكهم التي تركوها، وهي مطالب مدعومة من الحكومة الإسرائيلية.
لكن برغم وجود عراقيين تصالحوا مع الدعوة إلى التطبيع، وأخذوا يدعون لرفض حالة الحرب العراقية المستمرة مع إسرائيل، إلا أن تحديات عدّة تقف أمام التقارب المتنامي في الطبقة السياسيّة بين الإسرائيليين والعراقيين، أهمها النفوذ الإيراني القويّ في العراق، والرفض الشعبي.