الرئيسية / أخبار / النظام العالمي ما بين الاستبداد الرقمي والديمقراطية الليبرالية

النظام العالمي ما بين الاستبداد الرقمي والديمقراطية الليبرالية

د. سماء سليمان

خبيرة في العلاقات الدولية

شهد النظام العالمي منذ بداية الخمسينيات وحتى بداية التسعينيات حربا باردة بين الكتلتين الشرقية والغربية وقد دارت رحاها بين أيديولوجيتين مختلفيتن الأولى هي الايديولوجية الماركسية الاشتراكية والثانية هي الديمقراطية الرأسمالية، وقد كانت الغلبة للثانية، وقد تم الحديث في هذا الوقت عن النظام العالمي الجديد الذي أضحي أحادي القطبية وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي القطب الأوحد، ثم عاد الحديث مرة ثانية عن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب مع تولى الرئيس الأمريكي بارك أوباما السلطة بعد مرور أمريكا بالأزمة المالية العالمية عام 2008 وذلك حتى تتمكن أمريكا من بسط نفوذها على العالم مع توزيع الأعباء على باقي دول العالم وخاصة دول الاتحاد الأوروبي.

وفي هذه الأثناء شهد النظام العالمي صعود الصين كقوة سياسية وروسيا الاتحادية كقوى كبرى وهنا صعب القول بأن النظام العالمي أحادي أو متعدد الأقطاب وذلك لأنه لم تتوفر عوامل القوة الشاملة في دولة واحدة ولكنها توزعت بين أكثر من دولة حيث تراجعت أمريكا والاتحاد الأوروبي اقتصاديا في حين صعدت الصين اقتصاديا وصعدت روسيا الاتحادية عسكريا.

ولكن مع حدوث الثورات العربية، بدأ يظهر تأثير التكنولوجيا وخاصة برامج التواصل الإجتماعي في التأثير على الرأي العام وفي تحريك الشعوب وإسقاط الأنظمة، مما فتح المجال لسباق للتفوق التكنولوجي على المستوى الدولي وكيفية تفادي ما حدث في الدول العربية وعدم تكراراه في الدول الكبرى وخاصة روسيا والصين، ولذا اتخذت الصين قرارها بعدم استخدام الفيسبوك فيها بل لجأت إلى ابتكار نظام للتواصل بين مواطنينها خاص بها، كما أوقفت روسيا التعامل بالفيسبوك الأمريكي.

وقد كثر الحديث عن طبيعة النظام العالمي ليترنح بين أحادي القطبية كما ترى أمريكا وبين متعدد الأقطاب كما ترى الصين وروسيا ودول الاتحاد الاوروبي وخاصة الكبرى منها مثل فرنسا وألمانيا، في حين أنه يصعب القول أن للنظام العالمي حاليا طبيعة محددة ولكنه قيد التبلور في مرحلة الصراع بين الطرفين.

وقد كان لما يتم ترديده من تدخل روسيا في نتائج الانتخابات الأمريكية لصالح الرئيس رونالد ترامب وكذلك في استفتاء بريطانيا حول استمرارها في الاتحاد الاوروبي من عدمه وكذلك في الانتخابات الفرنسية وأخرى في مواقع وزارات الدفاع في دول البلطيق مثل استونيا وليتوانيا ولاتفيا، مما دفع بالمراقبين إلى القول بأن طبيعة النظام العالمي الجديد سوف تحسم بمدى تفوق الدول الكبرى تكنولوجيا بالشكل الذي يمكنها من السيطرة على مواطنيها والتحكم في سلوكهم السياسي والتأثير على مواطني الدول الأخرى.

ومن ثم سوف يشهد العالم تنافسا بين الدول للسيطرة على أنظمة الحكم وعلى القرارات السياسية للأنظمة والأفراد داخلها في الدول المتقدمة والنامية من خلال تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي التي يمكن استخدامها من قبل الحكومات لرصد سكنات مواطنيها وفهم سلوكياتهم والسيطرة عليهم على نحو غير مسبوق، حيث ابتكرت الصين نظام المراقبة “نظام جدار الحماية العظيم” والذي انتشر على الإنترنت لينتقل بين الدول ذات التوجه الواحد، حيث انتقل إلى تايلاند وفيتنام وسريلانكا، كما تم تزويد كل من إثيوبيا وإيران وروسيا وزامبيا وزيمبابوي وماليزيا به. ومن ثم على الرغم أن هذا النظام سيقلل من وجود المعارضة للأنظمة، وزيادة قبضة الأنظمة على المواطنين، كما سيقلل تأثير العامل الخارجي على الداخل في الدول المختلفة، إلا أنه سيكرس الاستبداد وتقييد الحريات الفردية، وهو ما سيواجه برفض من قبل أمريكا والدول الغربية التي تطبق الديمقراطية الليبرالية.

وهذا ما سيعيد للأذهان الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين الشرقي والغربي ولكن ذو طابع تكنولوجي، ومن ثم ستتجه الديمقراطيات الليبرالية إلى اعتماد استراتيجيات واضحة لمنافسة هذه الحكومات، كما سيكون هناك تنافسا بين الدول لضمان بيئة إعلامية متنوعة وسليمة، من خلال الحرص على عدم السماح لعمالقة على غرار فيسبوك، بالحد من التعددية الإعلامية؛ أو تمويل خدمات البث الحكومية، أو تحديث اللوائح التي تغطي الدعايات السياسية حتى تتناسب مع عالم الإنترنت.

وهنا تحدث المراقبون الدوليين بأن الحرب الايديولوجية القادمة في النظام الدولي ستكون بين الاستبدام الرقمي والديمقراطية الليبرالية بين الشرق من ناحية والغرب من ناحية أخرى، أي ستحدث مقابلة إيديولوجية بين الأنظمة الديمقراطية الليبرالية وبين الأنظمة الاستبدادية، حيث ظهر مفهوم الاستبداد الرقمي وهو ما تقودة الصين من خلال تقديم مشاريع ضخمة لتكنولوجيا المعلومات تشمل المجتمع، مثل مشروع جدار الحماية العظيم، ويسمح هذا المشروع ببلوغ مستويات عالية من الرقابة المجتمعية الانتقائية وفق تكلفة معقولة نسبياً، حيث ستكون الحكومات قادرة على مراقبة البيانات والسلوكيات بشكل انتقائي مع ضمان الحد من المناقشات السياسية التي من شأنها أن تلحق الضرر بالنظام، أي سيسمح الذكاء الاصطناعي المصمم للسيطرة الاجتماعية باستخلاص البيانات من الأجهزة التي يتفاعل معها الشخص في حياته اليومية.

مع العلم أن الصين حصلت أيضًا على تمويل لبناء أنظمة جديدة رئيسية. فخلال سنة 2017، بلغت ميزانية الأمن الداخلي للبلاد ما لا يقل عن 196 مليار دولار، محققة زيادة بنسبة 12% مقارنة بسنة 2016، ومن ثم فإن زيادة الانفاق على الذكاء الاصطناعي سيكون له تأثير سلبي على الإنفاق على برامج الاقتصاد والدفاع.

ومن المتوقع أن الدول المتقدمة والنامية سوف تنفق على امتلاك البرامج الرقابية والتأثير على المعارضة السياسية وتقليل تأثير العامل الخارجي على الداخل في الدول المختلفة وزيادة قبضة الأنظمة على المواطنين أكثر من إنفاقها على البرامج الاقتصادية وهو ما سينعكس سلبا على الأمن القومي للدول.

وفي هذه الحالة لن يكون الغرب قادرا سوى على فعل القليل من أجل تغيير مسار بلد بقوة الصين. ومن المرجح أن تظل الحكومات الاستبدادية الرقمية قائمة لفترة أطول. ودون شك، ستحتاج الديمقراطيات الليبرالية إلى اعتماد استراتيجيات واضحة لمنافسة هذه الحكومات.

وفي نفس الوقت ستكون العديد من الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي هشة وعرضة للخلل، ورغم تهافت الحكومات عليها بشكل متزايد من أجل ضمان الأمن، إلا أنه عليها الحرص على ألا تخرج الأمور عن سيطرتها.

على الرغم من أن الحظر الصارم لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في قطاع الأمن القومي غير واقعي، إلا أنه يجسد واحدًا من أكبر المخاطر التى تواجهها الأنظمة فى جميع أنحاء العالم، وعمليات زعزعة الاستقرار التى يروج لها من الخارج كل من الجهات الحكومية وغير الحكومية، والتى تحاول استقطاب المجتمعات وتفتيتها. فسلامة الأنظمة تعتمد على وجود بيئة معلوماتية تضمن التعددية والتنوع ويشكل التطور الخبيث للذكاء الاصطناعى خطرًا على إتمام “حزم” من التضليل وشن هجمات فيروسية من خلال تعدد قنوات المعلومات، بطريقة قابلة للتوسع ولها فعالية.

لذا يجب السعي إلى تحقيق هدف أكثر تواضعاً من حيث الإدارة الفعالة والآمنة للتكنولوجيا، ومن ثم سوف تشهد الدول الاستعداد لمستقبل الذكاء الاصطناعى بوضع استراتيجيات الأمن القومى من خلال رصد “التهديدات الهجينة”، التى تجمع بين أشكال مختلفة من الهجمات، التقليدية وغير التقليدية، مثل الهجمات السيبرانية أو التلاعب فى المعلومات.

وعلى المستوى الدولى، كما يجب على الدول تعزيز المعايير الدولية التي تضمن الخصوصية الفردية وسيادة الدولة في الآن نفسه. إلى جانب ذلك، ينبغي عليهم رسم حدود تنظم استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي والبيانات الوصفية من أجل حماية الأمن القومي بطرق قانونية، وليس لقمع حقوق الأفراد.

كما أن هناك خبراء يدعون لإنشاء الوكالة الدولية للذكاء الاصطناعى، تكون تبعيتها للأمم المتحدة، من أجل التحذير والتنبيه من إمكانية حدوث مخاطر جديدة، ومناقشة القضايا الأخلاقية، ومنع التقسيم الرقمى بين الدول المختلفة والمواطنين وضمان الشفافية فى بحث الذكاء الاصطناعى.

ومن الممكن أن يكون بناء حوكمة الذكاء الاصطناعي- التى لا يزال يتعين تطويرها – مفيدًا لتجربة الأمن السيبرانى من حيث الحوكمة. وفى هذا الصدد، فإن العامل المهم يكمن فى التعلم من الدروس المستفادة واختيار أفضل الممارسات فى مجال الأمن السيبرانى، لاستخدام الذكاء الاصطناعى من أجل تحقيق الأمن ومواجهة الاستخدامات الضارة وتصديرها إلى قطاعات أخرى.

وتحقيقًا لهذه الغاية، سيكون الاهتمام بتنفيذ وعمل فرق القرصنة الأخلاقية (فرق الشبكات)، وأنظمة التحقق الرسمية وتنفيذ ضوابط الأمن فى جميع الأجهزة المتصلة بالإنترنت، مع الأخذ فى الاعتبار عدم وجود مبادئ “للأمن حسب التصميم” فى العديد من المنتجات المعروضة فى السوق وتلك التى سيتم عرضها داخل ما يسمى بـ “إنترنت الأشياء” (IoT ).

وختاما، يمكن القول أن النظام العالمي سيشهد تنافسا جديدا تكنولوجيا وكذلك تنافسا في السيطرة على المواطنين وأنظمة الحكم في الداخل والخارج من خلال الاستبداد الرقمي الذي سيسعى كلا الجانبين إلى امتلاكه تحت مسميات وأهداف تتماشى مع أيديولوجيته التي يدعو إليها حلفاءه ومن يريدون أن يدخل في معسكره، كما ستطور الصراع إلى سباق تسلح يقوم على تطوير الذكاء الاصطناعي بما يمكن القوى الكبرى من امتلاك أسلحة يصعب أن تهزم، الأمر الذي سيدفع إلى التأثير على تحقيق التنمية الاقتصادية داخل هذه الدول ومن ثم على طريقة تعامل المواطن مع الحكومات، ومن ثم يفتح المجال أمام سقوط أو ظهور قوى كبرى في النظام العالمي الذي يشهد مقابلة بين ايديولوجيتين أحدهما جديدة وهي الاستبداد الرقمي والثانية قديمة وهي الديمقراطية الليبرالية.