د. شهاب المكاحله
يُعتبر التاريخ السياسي أحد الأعمدة الرئيسة في سرد وتحليل الجهود السياسية والأفكار والحركات السياسية في العالم العربي لأنه يرتبط بتاريخ العلاقات الدولية والظروف المحيطة بها والتي تؤثر على الأحداث في هذه العلاقات بين الدول. كما أن علاقة الأردن بجيرانها مثل العراق وسوريا وإسرائيل والسعودية مرتبط بملفات دولية تلعب الكثير في تحديد المعطيات والحيثيات التي يسير عليها الأردن وجيرانه في طبيعة العلاقة المرتبطة بمصالح دولية أولاً ثم إقليمية ثانياً.
وفيما يتعلق بالعلاقات الأردنية السورية، فإن ما هو متوقع مرتبط بالكثير من المؤثرات الداخلية (في كل من سوريا والأردن سياسياً وأمنياً وعسكرياً) إضافة إلى تأثيرات من الدول الداعمة للأردن وسوريا اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ومنها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا بما يفضي إلى صفقات إقليمية.
خلال عام 1975، وافق الأردن وسوريا على تنسيق الدفاع والسياسة الخارجية والاقتصاد والمعلومات والتعليم والأنشطة الثقافية. وأنشأ البلدان قيادة عسكرية مشتركة لتوفير خط دفاعي واحد ضد إسرائيل. كما أوقفت سوريا الدعاية المناهضة ضد الأردن، وفرضت قيوداً على التنظيمات الفلسطينية التي تتخذ من سوريا مقراً لها والتي قد تعتبرتهديداً لاستقرارالأردن وسيادته وأمنه.
تاريخ العلاقة بين النظامين الأردني والسوري كان دوماً يشهد فترات جزر ومدٍ وخصوصاً في الفترات من 1965 الى 1982. وبعد رجيل الزعيمين الملك الحسين وحافظ الأسد شهدت علاقات الدولتين تحسناً كبيراً على كافة الصعد منذ العام 1999.
واليوم وبعد أكثر من 7 سنوات على الحرب في سوريا والتوتر السياسي الذي حصل على صعيد العلاقات بين الدولتين اللتين تشتركان في حدود شهدت في الفترة التي سبقت الربيع العربي نشاطاً اقتصادياً كبيراً، مرَت الدولتان بمنعطفات عديدة أثرت على دبلوماسية الأردن التي خفضت تمثيلها الدبلوماسي في سوريا على الرغم من عدم تصريح الأردن رسمياً بدعمه للمعارضة أو أنه يدعم نظام الحكم.
فقد حافظ الأردن على تلك الدبلوماسية دون المساس بها حفاظاً على خط الرجعة فيما بعد عندما تعود الأمور إلى طبيعتها في سوريا بعد انتهاء الأزمة. ولعل زيارة الوفد الأردني النيابي إلى سوريا يوم الإثنين 19 نوفمبر 2018 بمثابة لينٍ في الموقف الأردني الرسمي تجاه سوريا تمهيداً لتنازلات سياسية لاحقة من الجانبين بما يخدم مصلحة الشعبين السوري والأردني. كما أن الرسالة التي حملها رئيس الوفد النيابي الأردني عببدالكريم الدغمي من الرئيس السوري بشار الأسد الى جلالة الملك عبدالله الثاني تعكس رغبة الطرفين في استئناف قريب للعلاقات السياسية عقب استئنفافها اقتصادياً بافتتاح معبر نصيب – جابر الحدودي في 16 اكتوبر 2018. كما أن رسالة الأسد إلى جلالة الملك عبدالله الثاني والتي كان مضمونها أنه “لا يتطلع للوراء بل إلى الأمام” بخصوص العلاقات السورية الأردنية تعني أنه لا بُد من طي صفحة الماضي وإعادة المياه إلى مجاريها سياسياً وقد يكون ذلك على متسوى السفراء أولاً.
اليوم، ومع توسيع الجيش السوري سيطرته على معظم مناطق سوريا واستعادة أجزاء كبيرة من البلاد كانت طوال أعوام تحت سيطرة المجموعات المسلحة والإرهابية، بما في ذلك المناطق المحاذية للحدود مع الأردن، هناك مؤشرات على أن البلدين يفكران في عودة العلاقات السياسية. في الماضي كان قرارعودة العلاقات الأردنية السورية إلى سابق عهدها يعتمد على عدة عناصر منها: إقليمي، ودولي واليوم بات القرار أردنياً ودولياً.
لعل أهم عنصر من العناصر التي تؤثر على مصير العلاقات السياسية بين البلدين يكمن في مدى رضى اللاعبين الدوليين عن تقارب الأردن من النظام السوري الحالي. ولأن الأردن دولة متأثرة لا مؤثرة بسياسات القوى العالمية نظراً لاعتماده على المساعدات الخارجية الاقتصادية من الولايات المتحدة والصين واليابان والاتحاد الأوروبي والدول الخليجية فإنه يبني سياساته بناء على مصالحه ومصالح تلك الدول التي تؤثر في مديونية الأردن سلباً أو إيجاباً. فما تريده الولايات المتحدة من الأردن لا بد أن يكون إذ لا تملك عمَان القدرة على رفض طلبات واشنطن لأنها أكبر داعم للاقتصاد والجيش الأردني. وحتى أن الأردن لا يمكن ضمان استقراره دون دعم أميركي. لذلك يأخذ الأردن كل تلك الاعتبارت في سياسته الخارجية. فحين يفكر في التقارب السياسي مع نظام ما، وليس فقط النظام السوري، لا بد له من ضوء أخضر دولي بشكل عام وأميركياً على وجه الخصوص.
في نهاية المطاف، فإن الأزمة السورية ليست أزمة داخلية وعمَان ليست وحدها من يقررعودة العلاقات السياسية مع دمشق لأنه لا بد من موافقة كافة الدول الراعية للأزمة السورية بحضور روسيا والولايات المتحدة وهذا ما أكده تصريح وزير الخارجية الأردني قُبيل أيام في مؤتمر صحفي مع المبعوث الأممي ستيفان ديمستورا بعد محادثات أجرياها في وزارة الخارجية “أنه لا بد من صفحة جديدة في التعامل مع الأزمة السورية”. وألمح الوزير الأردني غياب “غير مقبول للدور العربي في جهود حل الأزمة”، داعياً إلى التعامل مع الأزمة السورية وفق مقاربات جديدة تأخذ بعين الاعتبار الحقائق على الأرض وتستهدف إنهاء الأزمة ومساعدة الأشقاء في سوريا على استعادة أمنهم واستقرارهم.
فالعنصر الثاني وهم اللاعبون الإقليميون مهم جداً في بلورة قرار عمَان في التوجه نجو بوابة دمشق سياسياً. لذلك لا بد من الحرص دوماً من جانب الأردن على عدم اغضاب هذه الدول لأنها داعم رئيس لاقتصاده. وهذا ما يفسر عدم قدرة الأردن على الاعتراض على ما جرى في سوريا على اعتبار أنه يهدد أمنه الداخلي لأن تداعياته التي يعاني منها حالياً جراء موجات اللجوء سواء من العراق أو من سوريا أثرت على الوضع الاقتصادي للمملكة من حيث زيادة حجم مديونيته.
في نهاية الأمر، هناك أمران يهتم بهما الأردن بشكل خاص لأنه يتعامل مع تداعيات الصراع السوري. يريد الأردن الحد من انتشار الصراع والإرهاب إلى أراضيه ، وخاصة من الجهاديين السلفيين الراديكاليين الذين سيثيرون الاضطرابات في المملكة ومن انتشار الجهاديين من بين صفوف اللاجئين. في الوقت نفسه، ترغب عمان في الحفاظ على علاقاتها الإيجابية مع جيرانها الإقليميين ورعاتها الأجانب.
من المُرجح أن تشهد العلاقات بين الأردن وسوريا بعض التحسن على المستويات المهنية واللوجستية ، إذ تجلى ذلك في الاتصالات بين مؤسسات معينة تعمل في مجال مكافحة الإرهاب ، والأمن، و حماية الحدود. ومن هنا فإن أي حديث عن نوعية العلاقات بين سوريا والأردن لا علاقة له بما يجري حالياً لأن الأردن ينتظرأولاً تسوية للصراع السوري. لذلك فإن قرار تجديد العلاقات مع الحكومة السورية ليس قراراً أردنياً محلياً،ولا يُعد هذا انتقاصاً لسيادة الأردن لأن جزءاً كبيراً من قراراته السياسية عابر لحدوده فتحسين العلاقات بين الأردن وسوريا يعني تحسين العلاقات بين دمشق وواشنطن لأن الأردن حليف رئيس للولايات المتحدة الأميركية. كما أن دمشق تمثل المعسكر الروسي الإيراني كذلك وهذا جوهر فتور العلاقة السياسية الحالية بين الأردن وسوريا إلى حين الحصول على الضوء الأخضر الاميركي.
تشترط القيادة السورية موقفاً أردنياً واضحاً ضد المعارضة السورية وفصائلها ورفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين الأردن وسوريا قبل تطبيع العلاقات بين دمشق وعمَان. كما أن المحاولات الأردنية للتقارب مع دمشق، لم تكن من بنات أفكار الأردن الرسمي وحده، وإنما جاءت بالتوافق مع بعض دول الإقليم، انطلاقاً من غاية تجمع الأطراف كلها، في إطار محاربة تنظيم “داعش”.
العلاقات بين الجانبين الأردني والسوري لن تشهد على المدى البعيد حلولاً جذرية، كما أن النظام السوري سيسعى فيما بعد إلى التضييق على الحدود والعلاقات الدبلوماسية بين الجانبين النظام السوري الذي بدأ يشعر أنه في وضع استراتيجي أفضل من ذي قبل، مع دخول سيطرته على أجزاء كبيرة من البلاد. كما أنه يمكن للنظام السوري ان يلعب بورقة اللاجئين السوريين متى شاء للضغط على الأردن من حيث أن الأردن يعاني من انتكاسة اقتصادية كبيرة.
مع تحقيق القوات السورية مكاسب ضد المتمردين السوريين في الأشهر الأخيرة، أصبحت حاجة الأردن إلى الحفاظ على سياسة خارجية مرنة فيما يتعلق بالحرب الأهلية السورية واضحة بشكل متزايد. كما أن استراتيجية الأردن كانت اللعب على جميع الحبال للإبقاء على علاقات مع جميع الدول. وستستمر الإجراءات الأردنية في تحديدها بناء على تطورها على أرض الواقع في سوريا.