د. شهاب المكاحله
باتت الحروب العالمية تأخذ منحى غير عسكري في الكثير من الأحايين. فبدل من العسكرة يتم اللجوء إلى حرب اقتصادية قاسية ضد دول بعينها. وتشمل تلك الإجراءات الاقتصادية العقوبات والحظر ومقاطعة البضائع وفرض غرامات وعقوبات مالية على البنوك في تلك الدول تمهيداً لتركيعها والعدول عن سياساتها. من وجة نظر الكثير من الخبراء، فإن الحرب الاقتصادية مؤلمة أكثر من الحروب العسكرية والنووية والكيماوية لأنها تهدف لتركيع الحكومات عبر الأمعاء الخاوية دون أن تلحق بالدولة التي تفرض تلك العقوبات أية أضرار مادية أو بشرية. وبذلك تُحقق أعلى عائد ضد خصمها دون خسائر بشرية.
إن من أبرز أنواع الحروب الاقتصادية هي حروب الطاقة ومنها النفط والغاز، وحرب العملات وأسعار الصرف لما من شأن ذلك أن يحدث قلاقل في الكثير من الدول. كما أن من تلك الأنواع الحروب التكنولوجية، وغسل الأموال والتجسس الصناعي والاقتصادي. فلو تخيلنا أن الحرب بين تركيا والولايات المتحدة قد اندلعت عسكرياً، فإن الخسارة ستكون كبيرة بشرياً ومالياً، ولكن حرباً اقتصادية تفرضها الولايات المتحدة على تركيا تعني انهيار سعر صرف العملة وبالتالي انعدام الثقة في الليرة التركية مثلاً. ويتحقق المراد دون خسارة أميركية كبيرة إذ تتدمر الصناعات المحلية التركية وتفقد مصارد النقد الأجنبي وتستنزف الاحتياطيات من النقد الأجنبي وثقة المستثمرين والأسواق الخارجية. ويتبع ذلك حُكماً تدمير التجارة وخفض مستوى الانتاج وزيادة التضخم ومعدلات البطالة. كل ذلك يُحدث اضطرابات اجتماعية وعمالية. ويُسهم في الضغط على الشعب من أجل أن يُمارِس ضغطاً على الحكومات أو للإطاحة بها وتغيير الأنظمة كما هو الواقع حالياً في الصراع بين واشنطن وطهران من أجل إحداث شرخ سياسي واقتصادي كبير بين القيادة الإيرانية والشعب ما يزيد من حالة الفوضى التي قد تُمهد لانقلابات سياسية مدعومة خارجياً.بمعنى آخر فإن الحرب الاقتصادية الحديثة تسعى إلى شل قدرات الخصم.
وبالعودة الى فكر الحروب الاقتصادية، استوقفتني مقابلة أجريت مع هنري كيسنجر قبل مدة عن الاقتصاد الليبرالي والحروب الاقتصادية، إذ يرى الدبلوماسي والسياسي المخضرم أن
الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد يكون أحد تلك الشخصيات في التاريخ الذي يظهر من وقت لآخر للاحتفال بنهاية حقبة والبدء بحقبة جديدة بعد أن يتم التخلي عن الذرائع والمسوغات القديمة. ولا يعني ذلك بالضرورة أنه — أي ترامب– يعرف ذلك حقاً، أو أنه يفكر في أي بديل. بل يمكن أن يكون ذلك مجرد حادثة خططت لها مؤسسة كاملة تسعى للتغيير العالمي.
ولعل أول ممارسة فعلية للحرب الاقتصادية كانت من الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي في العام 1956 إبان حكم الرئيس آيزنهاور وعقب التدخل السوفييتي في المجر. كما لجأ الى الضغط على بريطانيا بعد أن سيطرت على قناة السويس. فما كان من الإدارة الأميركية آنذاك إلا أن منعنت صندوق النقد الدولي من تأمين مبلغ 561 مليون دولار لسداد ديون بريطانية كما منع بنك الاستيراد والتصدير الأميركي من تقديم مبلغ 600 مليون دولار إلى بريطانيا. وعمدت واشنطن إلى فرض الإجرائين لإجبار بريطانيا على الانسحاب من قناة السويس. ثم هدَدت الولايات المتحدة بريطانيا بالتخلي عن سندات الجنية الاسترليني مقابل الدولار. وفي العصر الحديث أي منذ بداية القرن الماضي وحتى نهاية يوليو 2018، لجأت الولايات المتحدة للحروب الاقتصادية أكثر من 120 مرة مع الدول التي ترفض تطبيق الرؤى الأميركية.
إن الحروب الاقتصادية هي إحدى الوسائل التي تفرضها الدول القوية اقتصادياً ومالياً وعسكرياً على دول أخرى أضعف منها تمهيداً لتغيير في سياسة تلك الدول. وقد يكون الهدف من تلك الحرب الاقتصادية هو تدمير الُبنى التحتية الاقتصادية فعلياً والبيئة الصناعية. وهذا يتطلب عمليات تجسس اقتصادي. وهناك أيضاً حروب الشائعات الاقتصادية التي تعتبر من وجهة نظري الاقتصاديين هي الأخطر لأنها تؤدي إلى انهيار اقتصادات وأسواق دول بشكل مفاجئ.
وبما أن العالم يعيش اليوم نظاماً حمائياً في ظل تصاعد التيارات الشعبوية، فإن الحرب العالمية الثالثة ستكون حرباً اقتصادية مالية تدمر الشركات المعادية إن لم تنصاع لمطالب الدولة التي تفرض الحصار تفضي إلى انهيار حاد في الاسواق المالية لتلك الدول ما يؤثر على عملاتها المحلية وثقة المواطن باقتصاد بلاده وقيادته.
https://bit.ly/2BjcpLr