د. شهاب المكاحله
منذ عودة جلالة الملك عبدالله الثاني إلى عمان لم تتوقف التساؤلات سواء أكانت بحسن نية أم بسوء نية عن نتائج تلك الزيارة. ولكن ما أود قوله إن عودة جلالته تحمل معها الكثير من ملامح المرحلة القادمة ليس للأردن فحسب بل وللمنطقة برمتها. وما يهمني في هذا المقام والمقال هو “الأردن أولاً”.
ففي الثامن من أغسطس يلتقي جلالته والرئيس الفلسطيني محمود عباس في العاصمة عمَان للتباحث في نتائج زيارة العاهل الأردني لواشطن ومباحثاته مع الإدارة الأميركية. منذ عودته، قام الملك عبدالله الثاني بأولى زياراته إلى القيادة العامة للقوات المسلحة للإطمئنان على الوضع العسكري في شمال الأردن وأبدى توجيهاته لاحقاً لرئيس الوزراء عمر الرزاز محدداً الخطوط العريضة للحكومة. كل ذلك قد يبدو أمراً عادياً أو طبيعياً ولكن اللهجة التي تحدث بها جلالته في رئاسة الوزراء من حيث لقائه برئيس الحكومة منفرداً لنصف ساعة ثم لقائه بباقي الوزراء لنصف ساعة أخرى هو اللافت للانتباه.
حين يقوم القائد الأعلى للقوات المسلحة بزيارة القيادة العامة للجيش كمحطة أولى له فإن ذلك يعني أن الهم الأول للملك هو أمن واستقرار الأردن وحماية حدوده وضبط إيقاع العمليات العسكرية على الحدود الشمالية مع سوريا. الزيارة تعكس أن الملك عبدالله الثاني يعطي الأولوية للجيش الأردني والمؤسسات الأمنية القائمة على أمن واستقرار المملكة نظراَ لأن الشعب الأردني يُكن الكثير من الاحترام لهذه المؤسسات كونها محل ثقة الشعب والقيادة معاً.
باختصار زيارة جلالته للقيادة العامة للقوات المسلحة ورئاسة الوزراء تحمل عدة معانٍ هي:
أولاً: الضوء الاخضر للجيش الأردني بالتعاون والتنسيق مع الجيش السوري للقضاء على الإرهاب في وادي اليرموك بعد أن تمكن عناصر من كتيبة حرس الحدود الأردنية من التصدي لمحاولة عدد من الإرهابيين للدخول إلى المملكة عبر قرى الشمال الأردني قبل عدة أيام.
ثانياً: تفوض رئيس الحكومة بملف الفساد وكسر ظهر الفاسدين حسب وصف جلالته. وهذا يعني إعادة تأكيد الملك للثقة التي منحها لرئيس الحكومة بالمضي قُدماً في إنجاز الملفات والمضي قُدماً في برامج الإصلاح والتطوير.
ثالثاً: على الرغم من معالم التعب التي تبدو على مُحيا الملك إلا أن من يقرأ تلك الملامح يرى أنه يريد تقوية الجبهة الداخلية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً من أجل ضبط إيقاع الشارع الأردني من تسارع الأحداث المحيطة بالأردن لأن الموضوع أكبر من صفقة قرن.
رابعاً: تفويض رئيس الحكومة بالسعي الحثيث من أجل سرعة إعادة فتح معبر نصيب – جابر الحدودي مع سوريا دون مساس بأمن واستقرار المملكة.
خامساً: الاستماع لشكاوى أبناء الأردن، لا سيما بعد أن أثبت الشعب الأردني أنه داعم للنظام بكل ما أوتي من قوة ويقف ضد كل محاولات زعزعة استقراره من عدد من دول الإقليم المدعومة دولياً.
في الأسبوع المقبل، هناك اعتكاف للفريق الوزاري لمدة يومين لوضع الخطط والبرنامج الزمني للإنجاز وهو ما قد يبعث التفاؤل لدى فئة كبيرة من الشعب الأردني ممن فقدوا الثقة في الحكومات وخطاباتها وتعهداتها ومكافحة الفساد وجميعها مهام شاقة للغاية.
عودة جلالة الملك وفرت لحكومة الرزاز الدعم اللازم للإنجاز على الصعيد الاقتصادي أما السياسي فهو للعاهل الأردني لأنه اليوم يمسك بأهم ملفين: ملف القضية الفلسطينية بما فيها القدس وعروبتها وملف التموضع في ظل التطورات المتسارعة على الساحة الشرق أوسطية مع مراعاة خيارات الأردن ومصالحه الاستراتيجية دون المساس بها أو تعريضها للخطر.
أخالف في مقالتي هذه ما قاله رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري في نهاية يونيو الماضي حين قال عن زيارة الملك عبدالله الثاني للولايات المتحدة بأنها الأخطر في تاريخ الأردن لأن المملكة لم “تُضع مفاتيحها” وأن “الدولة الأردنية ستواجه بعد الآن تحديات حقيقية لم تواجهها من قبل. ومن بينها أن الأردن سيكون في وضع سياسي خطير وحرج وغير مسبوق تجاه مجريات الملف الفلسطيني”. باختصار إن الأردن هو مفتاج المنطقة بلا منازع بل ولاعب إقليمي لم يُضع مفاتيحه بل ينتظر ما ستُسفر عنه التطورات المتسارعة في الإقليم.
في زيارته لواشطن، حذَر جلالته القيادة الأميركية من مغبة الإقدام على صفقة القرن وما بعدها والتي قد يتمخض عنها الطلب من الحكومات المستضيفة للآجئين الفلسطينيين العمل على توطينهم فيها دون منحهم حق العودة. فمسألة التوطين من شأنها تفريغ الأراضي المحتلة من سكانها وإعادة دورة الحياة لربيع عربي جديد بنسخة محدثة تغير المعادلات السياسية في الدول المستضيفة رفضاً للمعادلة الجديدة ذات المجاهيل الثلاثة: مستقل الدولة الفلسطينية، وحدودها، ومصير أبنائها.
منذ العام 1948 استقبلت الأردن موجات متعاقبة من اللآجئين الفلسطينيين والسوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين ومنحتهم كل الرعاية والحماية. فلم تُغلق عمَان بابها في وجه أشقائها الفارين من نير المدافع والقتل بل أحترمهم وأحسنت وفادتهم وقاسمتهم لقمة العيش.
ما يخيفنا اليوم ليس التوطين لأن مكان عمل الإنسان هو وطنه ولكن ما يخيف ويُقلق هو التجنيس لتلك الموجات المتعاقبة مما يُحدث خللاً ديموغرافياً واجتماعياً يُربك المعادلة السياسية في الأردن والقرارات السياسية السيادية. وهذا هو ما تخشاه غالبية الشعب الأردني: أن يكون الحل على حساب الوطن الأردني.