على قاعدة عسكرية مؤمنة بشكل كبير، وعلى بعد 15 ميلا إلى الجنوب من واشنطن العاصمة، يقبع المقر الضخم لوكالة تجسس يعرف يوجودها القليل. حتى باراك أوباما نفسه، ظل خمسة أشهر في رئاسته، دون أن يعرف اسمها على ما يبدو. في مايو 2009، وبينما كان أوباما يصافح خمسة رجال داخل مطعم همبرجر في واشنطن، سأل أحد العملاء كان جالسًا على طاولته عن وظيفته، “ماذا تعمل؟” تساءل الرئيس، “أنا أعمل في NGA، وكالة القومية للاستخبارات الجغرافية المكانية”، أجاب الرجل، ليندهش أوباما، قبل أن يقول: “إذن، اشرح لي بالضبط ما هذا الجغرافية الوطنية الـ…” غير قادر على إنهاء الاسم. بعد مرور ثماني سنوات على بث شريط الفيديو هذا، لا تزال هذه الوكالة حتى الآن، الأكثر غموضا بين وكالات التجسس الخمس الكبرى، التي تشمل وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي.
رغم أن اسم الوكالة غير المتعارف عليه، إلا أنها ثالث أكبر مبنى في واشنطن العاصمة، فهي أكبر من مقر وكالة المخابرات المركزية.
أُنشأ المبنى الرئيسي عام 2011 بتكلفة قدرها 1.4 مليار دولار، على مساحة أربعة ملاعب كرة قدم طويلة، ويغطي مساحة تماثل ضعف مساحة حاملات الطائرات. في عام 2016، اشترت الوكالة 99 فدانا في سانت لويس لبناء مباني إضافية بتكلفة 1.75 مليار دولار لاستيعاب القوى العاملة المتنامية، 3000 موظف في المدينة بالفعل.
هذه الوكالة تم تأسيسها لتصوير ما تنطق به وكالة الأمن القومي. وتتمثل مهمتها الرئيسية في تحليل مليارات الصور والفيديوهات التي تم التقاطها بواسطة طائرات بدون طيار في الشرق الأوسط، وأقمار التجسس التي تدور حول العالم. لكن نظرا لتخصيص الوكالة كاميراتها فائقة الدقة بعيدا عن الولايات المتحدة، بحسب مجموعة متنوعة من الدراسات، فإنها لم تشارك أبدا في فضائح التجسس المحلية مثل شقيقتيها الأكثر شهرة، وكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي. ومع ذلك، هناك سبب للاعتقاد بأن هذا سيتغير تحت الرئيس دونالد ترامب.
طوال حملته الانتخابية وخلال شهوره الأولى كرئيس، دافع ترامب بشدة لإضعاف القيود المفروضة على وكالات الاستخبارات، وإنفاق المزيد من الأموال للدفاع، والإصرار على القانون والنظام. وبالنظر إلى تركيز الرئيس الجديد الساحق على الأمن الداخلي، فمن المنطقي أن نتوقع أنه سوف يستخدم كل الأدوات المتاحة للحفاظ عليه، بما في ذلك المراقبة من الأعلى.
في مارس الماضي، أصدرت وزارة الدفاع الأمريكية نتائج التحقيق الذي بدأه مكتب المفتش العام التابع لوزارة الدفاع؛ لدراسة طائرات التجسس العسكرية في الولايات المتحدة. كشف التقرير -الذي تم وضعه “للاستخدام الرسمي فقط” وتم تنقيحه جزئيا- أن البنتاجون استخدم طائرات بدون طيار للرقابة على الأراضي الأمريكية في أقل من 20 مناسبة بين عامي 2006 و2015. (على الرغم من أن التقرير لا يحدد طبيعة البعثات، وتُورد وثيقة البنتاجون 11 عملية من طائرات محلية بدون طيار تتعلق أساسا بالكوارث الطبيعية والبحث والإنقاذ وتدريب الحرس الوطني).
كما اقتبس التحقيق عن مقالة مراجعة للقوات الجوية ما يشير إلى القلق المتزايد من أن التكنولوجيا المصممة للتجسس على الأعداء بالخارج قد تتحول قريبا للتجسس على المواطنين في الداخل.
ورغم أن التقرير ذكر أن جميع البعثات امتثلت بالكامل للقانون، فقد أشير إلى أنه لا توجد في عام 2015 قوانين اتحادية موحدة “تتناول على وجه التحديد استخدام القدرة التي توفرها إدارة الطائرات بدون طيار من قِبل السلطات المدنية المحلية”. كما أن سياسة البنتاجون التي تحكم طائرات الاستطلاع بدون طيار تتطلب من وزير الدفاع الموافقة على جميع هذه العمليات المحلية. وبموجب هذه اللوائح، “لا يجوز للطائرات بدون طيار أن ترصد الأشخاص الأمريكيين “ما لم يسمح القانون بذلك وتوافق عليها السكرتارية. كما تحظر السياسة تحليق طائرات مسلحة بدون طيار فوق الولايات المتحدة لأي شيء سوى التدريب العسكري واختبار الأسلحة.
عام 2016، وبغض النظر عن العديد من المسؤولين في المدينة، بدأت شرطة بالتيمور بإجراء مراقبة جوية مستمرة باستخدام نظام تم تطويره للاستخدام العسكري في العراق. عدد قليل من المدنيين لديهم فكرة عن مدى تقدم هذه الطائرات العسكرية بدون طيار. من بين تلك الطائراتـ توجد أرجس-إس، أعلى كاميرات العالم دقة مع 1.8 مليار بكسل. لا تُرى من الأرض على ارتفاع ما يقرب من أربعة أميال في الهواء. تستخدم الكاميرا تقنية تعرف باسم “التحديق المستمر”، أي ما يعادل 100 طائرة مفترسة بدون طيار تراقب مدينة متوسطة الحجم في وقت واحد؛ لتتبع كل ما يتحرك.
مع القدرة على مشاهدة منطقة على بعد 10 أو حتى 15 ميلا مربعا في وقت واحد، سيتطلب الأمر اثنين فقط من الطائرات بدون طيار تحوم فوق مانهاتن؛ للمراقبة باستمرار ومتابعة جميع الأنشطة البشرية، ليلا ونهارا. كما يمكن تكبير أي كائنات صغيرة مثل قطعة من الزبدة على طبق، بجانب تخزين ما يصل إلى 1 مليون تيرابايت من البيانات يوميا. من شأن تلك القدرة أن تسمح للمحللين بالعودة بالزمن على مدى أيام أو أسابيع أو شهور.
نفس هذه المعضلة تعرضت لها وزارة الأمن الداخلي من قبل، ذلك عام 2007، خلال رئاسة جورج بوش، حين أنشأت الإدارة فرعًا لتوجيه أقمار صناعية للتجسس المحلي، وكان اسمه واضحًا “مكتب التطبيقات الوطنية”. لكن الكونجرس، قلق حول “الأخ الأكبر في السماء”، قبل أن يقطع التمويل. في عام 2009، قررت إدارة أوباما إغلاق هذا المكتب.
مع ذلك، بعكس المراقبة الإلكترونية المحلية التي تمارسها وكالة الأمن القومي، وتم فحصها عن كثب وتخضع لتشريع يهدف إلى حماية الحريات المدنية، إلا أن التجسس من السماء نجا من انتباه كل من الكونجرس والشعب. قد تستفيد إدارة ترامب من هذا الفراغ.
بداية عصر جديد من “المراقبة المستمرة”، ستمكن ترامب من استخدام آليات التجسس من السماء في العالم كله لاستهداف المسلمين. الرئيس تحدث مسبقا حول تأييده لزيادة التدقيق في المساجد، بالتالي ستساعده المراقبة الجوية على تتبع المصلين. ويمكن لطائرات بدون طيار أن تساعد في عملية تجميع المهاجرين غير الشرعيين المطلوب ترحيلهم. كما قال ترامب إنه قد يرسل قوات فيدرالية إلى شيكاغو لقمع العنف. الطائرات بدون طيار قد توفر للمدينة العين التي لا تُغمض 24 ساعة يوميًا طوال أيام الأسبوع.
بطبيعة الحال، يتطلب كل ذلك توسعا كبيرا في الوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية المكانية؛ لتحليل الصور المحلية. قبل أن يحدث ذلك، على ترامب، مثل أوباما، أن يكتشف وجود هذه الوكالة.
فورين بوليسي