لا شك أن رد فعل إدارة أوباما على إعلان إسرائيل بناء مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة مفهوم ومحير في الوقت نفسه. فقبل بضعة أسابيع فحسب وقع البيت الأبيض اتفاقاً جديداً مدته 10 سنوات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تتعهد فيه الولايات المتحدة بتقديم ما إجماليه 38 مليار دولار في صورة مساعدات عسكرية إلى الدولة العبرية. وأشار الرئيس أوباما حين إعلان الاتفاق إلى أن هذه هي أهم صفقة دعم لإسرائيل معلناً التزاماً لا مثيل له بحماية أمنها. وبعد ذلك بفترة قصيرة تحدث أوباما نفسه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة محذراً إسرائيل من أنها «لا يمكن أن تحتل وتستوطن الأراضي الفلسطينية بشكل دائم».
وبدا تصريح أوباما كرد قوي على إعلان نتنياهو عزمه على بناء مستوطنات جديدة في عمق الضفة الغربية بالإضافة إلى الخطط القائمة بالفعل لتوسيع مستوطنات في مناطق أخرى حساسة من الأراضي المحتلة في المناطق العربية من القدس وفي قلب الخليل وحول بيت لحم. وإعلان نتنياهو هذا فيه استفزاز يكشف عزم إسرائيل على إبقاء سيطرتها على كل الضفة الغربية مما يجعل إقامة دولة فلسطينية لها مقومات الحياة أمراً مستحيلاً. وفي استفزاز للرئيس الأميركي جاء إعلان نتنياهو قبل يومين من الموعد المقرر لسفر أوباما إلى إسرائيل ليلقي كلمة في مراسم تأبين شمعون بيريز.
ولذا لم تدهشني شدة ردود فعل البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية. فقد أشار المتحدث باسم البيت الأبيض إلى أن كل الإدارات الأميركية، منذ عام 1976، عارضت الاستيطان في الأراضي المحتلة. وأكد المتحدث أن توسع المستوطنات في الضفة الغربية والقدس لم يؤد إلا إلى المزيد من إحباط حل الدولتين للصراع العربي الإسرائيلي. ومضى البيت الأبيض خطوة أبعد واتهم نتنياهو بانتهاك تعهده للولايات المتحدة بالامتناع عن أي توسيع للمستوطنات.
وبدوره أدان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية بشدة خطة إسرائيل الرامية إلى إقامة «مستوطنة كبيرة جديدة في عمق الضفة الغربية». وأشار إلى التوسع باعتباره «خطوة أخرى نحو تعزيز واقع الدولة الواحدة دائمة الاحتلال… ومثل هذه التحركات لن تؤدي إلا إلى الإدانة من المجتمع الدولي والمزيد من التشكيك في التزام إسرائيل بالتوصل إلى سلام عن طريق التفاوض». ومضى أكثر ليقول إن الإدارة «منزعجة للغاية» لأن إسرائيل اتخذت هذا الإجراء بعد فترة قصيرة من التوقيع على اتفاق مساعدات عسكرية كبيرة.
وبينما أفهم تماماً انزعاج الإدارة الأميركية إلا أنني أقر بحيرتي أيضاً. فنتنياهو يتلاعب بالإدارة الأميركية منذ ما يقرب من ثمانية أعوام وقد تحداها مراراً دون أن يناله أذى. وفي ثلاث مناسبات استغل نتنياهو دعوات لإلقاء كلمة في الكونجرس الأميركي في مسعى لعرقلة أهداف الرئيس أوباما. ونجح رئيس الوزراء الإسرائيلي في مسعاه مرتين. وفي المرة التي خسر فيها معركة صفقة إيران النووية، حصل على مكافأة تمثلت في صفقة عسكرية بقيمة 38 مليار دولار.
ولذا، وبعد ثمانية أعوام تقريباً من إحباط جهود الإدارة في صنع السلام، ومن التوسع الاستيطاني المستمر، والانتهاكات المنهجية للحقوق الفلسطينية، وحلقات العنف الغاشم المتكرر دون قيود تقريباً، فلماذا يندهش أي شخص من حصول نتنياهو على 38 مليار دولار ويتبجح بتجاهل التزاماته للرئيس؟ إن نتنياهو يتصرف متمتعاً بحصانة ولا يُسأل عن تصرفاته! والبيت الأبيض ووزارة الخارجية قد يحتجان بشدة ويصدران البيانات شديدة اللهجة، ولكن نتنياهو يعلم أنه لن يلقى عقاباً جراء سوء عمله.
وهذه الإدارة مثل سابقاتها ستعترض بأن أيديها مقيدة وأن الكونجرس يضعف قراراتها أو يلغيها. لكن في الشهور الثلاثة الأخيرة من عهد هذه الإدارة أمام الرئيس أوباما فرصة لتصحيح الأوضاع. ويست على سبيل المثال أن يعلن من
جديد ما توصلت إليه الإدارة الأميركية في سبعينيات القرن الماضي من أن النشاط الاستيطاني غير مشروع. ويستطيع أن يسمح لمجلس الأمن الدولي بأن يجيز قراراً يعلن عدم مشروعية المستوطنات ويفرض عقوبات دولية ضد إسرائيل لانتهاكها القانون الدولي. ويستطيع أيضاً أن يرفض عرقلة مسعى عربي لإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وقد تنخرط إسرائيل في نوبة غضب كشأن الطفل المدلل. ولا شك أن اللوبي الإسرائيلي سيتحرك لمطالبة الكونجرس برفض مسعى الإدارة. ولكن الموضوع لن يكون في يد الكونجرس بل في يد المجتمع الدولي. وهذا يبعث برسالة قوية إلى إسرائيل مفادها أنه لا يمكنها مواصلة قمعها للفلسطينيين وزحفها الاحتلالي على الأراضي الفلسطينية. وهذا يعزز جهود السلام. وأخيراً، فمثل هذا الموقف الحاسم يساعد في خدمة رصيد تركة الرئيس أوباما في الشرق الأوسط، ليتذكره سكان المنطقة باعتباره الرئيس الذي قدم مساعدة أمنية غير مسبوقة إلى إسرائيل بينما جعل أيضاً القيادة الناشزة للدولة العبرية تواجه العواقب الدولية لسلوكها الاحتلالي الغاشم.
جيمس الزغبي