الرئيسية / أخبار / هل انتهت الحرب.. أم هي استراحة محارب

هل انتهت الحرب.. أم هي استراحة محارب

هل نحن في خضمّ حرب عالمية ثالثة حقيقية منذ قرابة عامين؟ ربما نعم، وربما نعيشها دون إعلان رسمي، لكن بأحداث تتتالى وتتوالى بوقعٍ مُرتّب ومدروس، تُغيّر شكل المنطقة والعالم، وتجعل من القدس مركزا فعليّا لإعادة التشكيل ورسم واقعٍ جديد للمنطقة.

نحن نعيش اليوم مرحلة سقوط إمبراطوريات وصعود أخرى؛ مرحلة تتغير فيها التحالفات، وتُعاد صياغة مراكز القوة وصنع القرار لحظة بلحظة. وإذا كانت كتب التاريخ قد تحدثت عن لحظات فاصلة، فإن 7 أكتوبر كانت اللحظة الفارقة بين عصرين؛ لحظة أحدثت كسرا عميقا وشرخا هائلا في البنية السياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية لمنطقة الشرق.

ولأن الأرض ما زالت في مرحلة الغليان والتوتر وإعادة التشكيل، ولأن الطريق يبدو مشوّشا ومبهَما ورماديّا، فإن التغيير العميق في تركيبة المنطقة سيبدو جليّا خلال الأعوام القادمة.

7 أكتوبر كانت نقطة تماسٍّ بين قوى إقليمية ودولية، انفجرت، فاهتزّت معها قواعد الهيمنة، وبدأت خرائط جديدة بالارتسام. إنها لحظة انطلقت معها سلسلة من الأحداث الزلزالية التي غيّرت شكل الشرق، وأثّرت على مناطق أخرى في العالم، في بنى القوة، وهيكليات الهيمنة، وقواعد الأمن، واتخاذ القرار، والتحالفات، والعداء.

الحرب التي بدأت من غزة انتقلت فجأة لتضع طهران وتل أبيب على خطّ المواجهة المباشرة. فإسرائيل لا تريد سلاما، ولا يبدو أنها تبحث عن استقرارٍ، إلا بعد أن تُعيد تشكيل المشهد كما تشتهي.

لو عدنا بالمشهد إلى “ما قبل بقليل”، لوجدنا أنه بدأ بتفكيك “أذرع” إيران من لبنان إلى سوريا، إلى اليمن، وصولا إلى الداخل الفلسطيني، ثم جاءت الضربة الأخطر: ضُرب الرأس نفسه، إيران، باستهداف مباشر لقادة الحرس الثوري ومواقع يُفترض أنها الأكثر تحصينا.

وكرد فعل، ولأول مرة، نشهد تل أبيب، وحيفا، وبئر السبع، ومدنا أخرى، تهتز تحت وقع الصواريخ، تقف على ركام الحرائق، ونرى مشهدا جديدا لم تعرفه “إسرائيل” من قبل.

ثم جاءت الضربة الأميركية لمفاعل فوردو وأماكن أخرى، ويُقال إنها ساهمت في إرجاع البرنامج النووي الإيراني إلى الوراء، وعطّلت مساعي إيران لامتلاك سلاح نووي، وإن الضربات كانت قادرة على تحجيم قوة طهران.

إيران نفت تعرض برنامجها النووي لأيّ ضرر، وتقارير أميركية مسرّبة وصفت الضربة الأميركية بالفاشلة. لكن الرئيس دونالد ترامب، على وقعها، خرج يتغنّى بنفسه، وبقراراته و”نجاحاته”، وفي الجهة الأخرى بنيامين نتنياهو يستغلّ الفرصة ويحاول أن يخيط المشهد كله على مقاسه، ومقاس ما يسميه إنجازاته خلال العامين الماضيين. ونحن، بين هذا وذاك… لم نعلم الحقيقة أبدا.

لكن الأهم: فجأة، انسحب الجميع. كيف؟ ضربت إيران قاعدة أميركية، بضربة قال ترامب إنها كانت “متفقا عليها مسبقا”؛ ضربة “حفظ ماء الوجه”. ثم كان انسحاب متبادل من حافة الحرب.

أُسدل الستار فجأة، وعاد كل طرفٍ إلى حياته، بعد 12 يوما من الخوف، والوعيد، والتأهّب، وسباق التسلّح… ثم توقّف كل شيء.

لكن، هل توقّف فعلا؟ لا أعتقد.

الحرب لم تنتهِ، بل يبدو أنها دخلت في مرحلة استراحة مراقبة. توقّفٌ تكتيكي، هدوءٌ محسوب، استراحة تُستخدم لإعادة التموضع، ولجرد الحسابات، وربما أيضا لإعادة تفاهمات لم تنضج بعد.

وربما، في الغرف المغلقة، لم يُحدَّد بعد شكل العالم المتَّفق عليه. ربما ما زالت تلك الغرف تتأرجح، وتختلف على طبيعة الأحداث المرجوّ إنتاجها، وكأن الكبار أنفسهم لا يملكون تصورا موحَّدا لنهاية المشهد.

إسرائيل المنشغلة بحروبها على جبهات عدّة، ربما لا يناسبها خوض حرب طويلة مع إيران، قد تستنزفها داخليّا وخارجيّا. وهي ليست في وضع سياسي داخلي يسمح بحرب مفتوحة غير محسومة.

أما إيران، فقد استفادت من “الضربة المتفق عليها” لتبدو قوية، دون أن تُقحم نفسها أكثر في مغامرة قد تهدد النظام برمّته.

وفي المقابل، الولايات المتحدة في عهد ترامب لا ترى أن استمرار الحرب يخدم مصالحها؛ فترامب قدّم نفسه على أنه “رجل سلام”، وأنه جاء لينهي الحروب التي بدأها سلفه جو بايدن، لا ليشعلها من جديد. إنه يروّج لنفسه باعتباره من يعيد “الاستقرار والنمو والتطور الاقتصادي،” لا من يجرّ العالم إلى كوارث إضافية.

حرب طويلة في المنطقة ستُظهره كشخص غير وفِيّ لحلفائه هناك، وستُضعف صورته كرجل صفقات لا كرجل صراعات، وستقوّض السردية التي بنى عليها حملته السياسية كلها. لذلك، كانت التهدئة جزءا من إستراتيجية مدروسة، حتى وإن بدت في ظاهرها عشوائية أو مفاجئة.

أما النظام الإيراني؟ فلم يسقط. لماذا؟ ربما لأنه لا يوجد بديل جاهز. فالمعارضة منقسمة، ولا تبدو أنها قوية أو موحّدة. البدائل غير واضحة، والتغيير المفاجئ قد يفتح أبواب فوضى هائلة لا يعرف أحد كيف يُغلقها.

إيران ليست دولة صغيرة؛ فيها قوميات، ومذاهب، وسلاح منتشر، ونظام أمني عنيف. سقوط النظام فجأة قد يعني سوريا مضروبة في عشرة.

وربما لأنّ حلفاء إيران، من روسيا إلى الصين، لا يريدون رؤية نظام بديل يُقرّب طهران من الغرب. والمنطقة كذلك لا تريد أن تشهد فوضى ما بعد سقوط نظام إيران. ولأن الغرب لم يتفق بعد على ما يريده أصلا من “إيران القادمة”، فقد يرى أن استنزاف إيران وتقليم أذرعها أكثر فائدة من انهيارها التام.

إذا، نعود لنفكّر.. الحرب لم تنتهِ، بل دخلت “فترة استراحة مراقبة” حتى إشعار حربٍ آخر..

وربما، إسرائيل وأميركا أدركتا أن استمرار الحرب لن يأتي بنصر سريع، بل بخسائر قد تهدّد استقرار الداخل قبل الخارج.

ونحن، شعوب المنطقة، نعيش في زمن الهدوء المصطنع، قبل أن يُعاد إشعال الجبهات مجددا، عندما تكون أوراق اللعبة قد تغيّرت.

ما نعيشه ليس مجرد صراع، بل لحظة إعادة تشكّل للعالم؛ لحظة يُعاد فيها تعريف الأمن، ومفاهيم العداء، والسيادة، والشرعية، والثقة. لحظة لا يُشارك في كتابتها إلا من يملك القوة.

وحتى إن بدا أن كل شيء قد هدأ، فالحقيقة أن ما حصل لم يكن نهاية شيء، بل ربما كان بدايته الفعلية.