الرئيسية / أخبار / استدارة إيران تصب في صالح العرب

استدارة إيران تصب في صالح العرب

في سنوات سابقة كان ينظر إلى إيران على أنها خصم تاريخي للعرب، وهناك من يدعم أن يتولى الأميركيون ضربها حتى تعود إلى أرض الواقع وتفكر بأمن جيرانها، ووجد هذا الخطاب مشروعية كبيرة بسبب ما جرى للعراق ونجاح طهران في التحالف مع الأميركيين لوضع اليد عليه وتحويله إلى إيران ثانية من حيث سيطرة الأحزاب الموالية لها واختراق نسيجه الاجتماعي عبر إحياء سلوكيات مذهبية الكثير منها أقرب إلى الشعوذة والدجل، وجعل القرار بيد مرجعيات دينية متوارثة بالولاء لإيران إما علنا أو سرا.

لكن الآن الأوضاع في الخليج والشرق الأوسط اختلفت بشكل تغير فيه الخليجيون والعرب، ولم تعد إيران هي نفسها الثورة التي تريد أن تصدر نفسها لتسيطر على الجيران.. التغييرات دفعت إيران لأن تضع تصدير الثورة وراءها وتتصرف كدولة لديها مصالح وأولويات، وصارت تفرق بين المرحلي والإستراتيجي.

زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى القاهرة ولقاؤه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ووزير الخارجية بدر عبدالعاطي وإظهار الرغبة في تجنب الصدام مع إسرائيل والولايات المتحدة كلها عناصر تظهر أن طهران لم تعد تضع العرب في سلة واحدة، سلة من كانت تسميهم عملاء إسرائيل، صارت تريد منهم أن يمدوا لها اليد ولا تدري أين تجد الوسيط القادر على إقناع تل أبيب وواشنطن بأنها لا تريد الحرب ومستعدة لحل الخلاف حول البرنامج النووي وحول التدخلات الإقليمية.

تبحث إيران عن اختراق عبر طلب وساطة مقربين من أميركا، مصر وقبلها دول الخليج التي زارها عراقجي وأطلق فيها تصريحات متفائلة عن تقدم الحوار مع أميركا في المسار التفاوضي الذي ترعاه سلطنة عمان. البوصلة واضحة، الاستهداف العسكري خط أحمر وما سواه يمكن التفاهم بشأنه سواء ما تعلق بالتخصيب أو بدور المجموعات الحليفة لإيران في المنطقة.

في زيارته الثلاثاء إلى لبنان تعمد عراقجي تجنب أي إشارة إلى موضوع نزع سلاح حزب الله ووضعه تحت سيطرة الدولة. هذا لا يمكن تفسيره سوى بأن إيران باتت تفكر بنفسها وبالتصرف بحكمة لمنع أي ضربة عسكرية إسرائيلية ضدها شبيهة بالضربات الخاطفة السابقة سواء في قلب طهران أو على الأراضي السورية، وهي الضربات التي أودت بقادة بارزين من الحرس الثوري أو بحلفاء مقربين من إيران مثل قائد حماس إسماعيل هنية.

الحذر الذي أبداه عراقجي في لبنان وبحثه عن فتح صفحة جديدة مع بيروت لا تكون لذكر حزب الله فيها أي إشارة وسماع تلميحات رسمية لبنانية عن علاقة دولة بدولة، يعني لبنان مع إيران وليس إيران وحزب الله. كلها عناصر توحي بأنه تلقى تحذيرات في مصر من أن إسرائيل جادة في توجيه ضربات لإيران، وأن الأمر يتجاوز التسريبات التي تظهر هنا وهناك في الإعلام الغربي، ليصل إلى معطى رسمي قد تكون مصر تبلغت به من جهات أميركية أو إسرائيلية بهدف إيصاله إلى عراقجي.

الإشارات التي تم تبادلها في لقاء عراقجي مع المسؤولين اللبنانيين توحي بأن طهران لا تمانع، في وضعها الحالي، أن تبدأ السلطات العسكرية والأمنية اللبنانية في نزع سلاح الحزب، على الأقل السلاح الثقيل، ووضعه تحت يد الدولة اللبنانية إما بشكل نهائي أو إلى حين تغيير الظروف التي يمكن أن تتم فيها المصالحة بين الدولة و”المقاومة” وهي ظروف تبدو بعيدة المنال في الوقت الحالي.

وليس مستبعدا أن يأتي الدور على الحوثيين. صحيح أن عامل الجغرافيا في اليمن يصب في صالحهم، لكن ليس مستبعدا أن تضغط عليهم إيران لتخفيف هجماتهم الرمزية على إسرائيل لقطع الطريق على تحويل تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لطهران إلى أمر واقع.

من المهم إستراتيجيا أن إيران قد خاضت الاحتكاكات الأخيرة مع إسرائيل إنْ بشكل مباشر كما جرى في سوريا وطهران، أو بشكل غير مباشر عبر حزب الله وحماس بدرجة أولى ثم لاحقا الحوثيين والمجموعات المسلحة في العراق. سرعة الحسم العسكري الإسرائيلي في غزة ولبنان كانت رسالة لإيران تفيد بأن المناوشة بالوكالة لم تكن مدروسة وأن هناك مبالغة في الثقة بقدرات المجاميع العسكرية الحليفة لإيران.

حماس قدمت ما عليها وخسرت خسارات مضاعفة سياسيا وشعبيا وبشريا (داخل غزة) وحزب الله أفاق على حقيقة أن ترسانته محدودة تكفي للمناوشة لبعض الوقت وليس لخوض حرب تحمي إيران من الاستهداف. الخسارة الإستراتيجية كانت في مقتل نصرالله، الذي حول تصدير الثورة إلى حالة اختراق ثوري في منطقة مريضة بالشعارات وبالرغبة في تعويض الهزائم بالمزيد من الهزائم، ومن السهل توصيفها بالنصر الإستراتيجي.

لم تقد صدمة خسارة نصرالله الإيرانيين إلى مراجعة فكرة الصدام مع إسرائيل والأميركيين فقط، بل طالت في الصميم فكرة تصدير الثورة وخطاب تخوين المحيط الإقليمي. انتقلنا من التخوين إلى الاحتماء بالمحيط الإقليمي لمنع الصدام مع إسرائيل وأميركا في وجود رئيس أميركي براغماتي مثل دونالد ترامب يؤمن بأن الضغوط تقود إلى التنازلات السريعة.

وقبل مصر كان عراقجي قد زار السعودية وقطر والإمارات قبيل جولة ترامب التي قادته إلى الدول الخليجية الثلاث. لم يكن الأمر يستدعي أي تأويلات أو تحاليل استباقية لمعرفة سبب جولة عراقجي الخليجية. المسؤولون الإيرانيون يعرفون أن دول الخليج مهمة لدى ترامب سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وأصوات قادتها مسموعة، ويمكنهم أن يقنعوه بأن إيران تتغير، وتحتاج إلى وقت لاختبار جدية التغيير الحاصل فيها، وهذه الفرصة هي التي يشتغل عراقجي عليها وحرص في زيارته إلى مصر ولبنان على تأكيد فكرة التغيير على أمل أن يلمسها الإسرائيليون أيضا وليس فقط إدارة ترامب. كما حرص الرئيس مسعود بيزشكيان على تأكيدها خلال زيارته إلى مسقط ولقائه السلطان هيثم بن طارق.

وسواء أكانت الاستدارة التي تبديها إيران مرحلية، وتتحكم فيها المخاوف من الاستهداف العسكري، أم أنها جزء من مسار إستراتيجي للقطع مع خطاب تصدير الثورة الاستعلائي، فإن التغيير يصب في صالح العرب، وخاصة دول الخليج.

لقد فهم الإيرانيون أن الجوار الخليجي حليف إستراتيجي جغرافيا وسياسيا واقتصاديا، وهو بوابة بلادهم المستقبلية بعد تصفية المجاميع الحليفة خاصة في لبنان وخسارة سوريا وسقوط مخطط الهلال الشيعي. صحيح أن هذا التحول فرضته الظروف، لكن سيكون مهما لأنه سيحرر الخليجيين من بعبع الحرب والاحتقان العسكري والسياسي والإعلامي والطائفي الذي ساد لعقود بسبب ثورة الخميني.

وصول فكرة تصدير الثورة إلى نهايتها سيعني تغيير الإستراتيجيات من التحسب للحرب والاستعداد لها عبر السباق على السلاح وسيعطي الفرصة في المنطقة للعمل على الاقتصاد، وهو ما بدأ به الخليجيون قبل بضع سنوات ضمن استشرافهم لمرحلة ما بعد الحروب الإقليمية، مع بداية اهتزاز مشروع التمدد الطائفي الإيراني.

ستكون السعودية الأكثر استفادة من الاستدارة الإيرانية نحو العقل. والضربات التي تلقاها الحوثيون من إسرائيل وأميركا وبريطانيا ستضعفهم، وتقضي خاصة على فكرة أن دورهم هو إثارة الحروب في اليمن والمحيط الإقليمي بقطع النظر عن النتائج. الصواريخ والمسيرات المهربة من طهران لن تعود لها فائدة بعد اهتزاز صورة إيران التي تهندس الحروب والصراع والأزمات الداخلية لتحقيق هدفها الإستراتيجي في تسيد المنطقة.

هزيمة إستراتيجية تصدير الثورة تقود آليا إلى نهاية الأذرع الطائفية ولو بأسلوب الموت البطيء. لن يعود حزب الله وحماس كما كانا من قبل، والأمر نفسه ينطبق على الحوثيين. يبقى العراق ملعبا مستقبليا لتصعيد قادم بين واشنطن وطهران لتجفيف نفوذ إيران ودفع إفرازات تصدير الثورة من ميليشيات إلى الانكفاء.