وسط تصاعد التنافس الأميركي – الصيني في جنوب شرق آسيا، يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يشق لفرنسا مسارا ثالثا، لا يقف على طرفي الاستقطاب، بل يدعو إلى توازن يحفظ مصالح الدول الصغيرة ويحترم سيادتها. ومن فيتنام المحطة الأولى لجولته الآسيوية، والتي ستقوده إلى كل من إندونيسيا وماليزيا، أطلق ماكرون أمس الاثنين رسائل متعددة الاتجاهات، هدفها تثبيت حضور باريس في منطقة تعيد تشكيل أولوياتها التجارية والجيوسياسية وسط عالم بات أقل يقينا وأكثر اضطرابا.
ورغم الخلفية الاستعمارية المعقدة التي تربط فرنسا بفيتنام، اختار ماكرون أن يفتح “صفحة جديدة” مع هانوي، مستندًا إلى مفهوم الشراكة العادلة واحترام السيادة. واختار كلماته بعناية في لقائه مع المسؤولين الفيتناميين، مؤكدًا التزامه بنظام عالمي “يرتكز على القانون”، في إشارة ضمنية إلى رفض ممارسات “الترهيب” والتدخل التي باتت سمة أساسية في العلاقات الدولية، سواء جاءت من واشنطن أو من بكين.
ووجه ماكرون رسالة مزدوجة؛ فهي من جهة تطمئن الدول الآسيوية التي تخشى الوقوع في فخ الصراع الأميركي – الصيني، ومن جهة أخرى تحاول فرنسا تعزيز حضورها الاقتصادي والتكنولوجي في أسواق نامية، تشكّل فيها حاليا لاعبا ثانويا مقارنة بالثقل الأميركي أو الكثافة الصينية.
ومع توقيع أكثر من 12 اتفاقًا في مجالات الطاقة والنقل والفضاء، تحاول باريس ترجمة خطابها السياسي إلى استثمار عملي، مستفيدة من حاجة فيتنام إلى تنويع شركائها ومواردها في ظل الضغوط الأميركية وارتباطها التجاري العميق بالصين.
لكن زيارة ماكرون لا تخلو من تناقضات؛ ففيما يؤكد التزامه بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، اختار الغداء مع الأمين العام للحزب الشيوعي تو لام، المتهم من منظمات حقوقية بقيادة حملات قمع واسعة.
ورغم الانتقادات تفضل باريس مقاربة “الدبلوماسية الهادئة” خلف الأبواب المغلقة، مراهنة على أن الشراكة الإستراتيجية لا تتطلب المواجهة العلنية.
ويأتي التحرك الفرنسي في آسيا أيضا في سياق إعادة رسم التحالفات الدفاعية والتجارية في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وإذا كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن قد نسّقت مع أوروبا بشكل أوثق، فإن سياسة “أميركا أولًا” العائدة تعني أن على باريس، كما غيرها، أن تبحث عن توازنات خاصة تحفظ مصالحها دون أن تتماهى بالكامل مع الموقف الأميركي.
وفي المقابل تُحمّل باريس موسكو جزءًا من مسؤولية زعزعة استقرار آسيا، وليس فقط أوروبا، متهمة إياها بإقحام مقاتلين من كوريا الشمالية في الحرب الأوكرانية، ما يزيد من تعقيد العلاقات الأمنية في المحيطين الهندي والهادئ.
ويقول محللون إن إستراتيجية “المسار الثالث” الفرنسية تبدو محاولة نادرة لصياغة نهج أوروبي مستقل، لا يستنسخ مواقف واشنطن، ولا يخضع لسطوة بكين، بل يسعى إلى تقديم نموذج مختلف في العلاقات الدولية.
ولكن نجاح هذه الإستراتيجية يتوقف على مدى واقعية ماكرون في ترجمتها على الأرض، وقدرته على بناء ثقة دائمة مع شركاء آسيويين معتادين على التعامل مع القوى الكبرى من موقع الحذر والموازنة لا الاصطفاف.
وقد تكون فيتنام مختبرًا جيدا لهذا النهج الفرنسي، لكنها ليست اختبارًا نهائيًا. فالرهان الحقيقي سيُحسم في مدى قدرة فرنسا على الاستمرار كلاعب موثوق وسط لعبة أمم تتغير مع كل موجة انتخابية جديدة في واشنطن أو بكين.
وفي لحظة عالمية تتسم بإعادة تشكيل موازين القوى وتزايد التوترات بين الأقطاب الكبرى، تبدو تحركات فرنسا الأخيرة في جنوب شرق آسيا جزءًا من مسعى أوسع لإعادة تعريف موقعها في النظام الدولي.
ولم تعد باريس تكتفي بدور المراقب أو الحليف الثانوي ضمن المنظومة الغربية، بل تسعى إلى استعادة مكانة فاعلة عبر تبنّي ما يشبه سياسة خارجية مستقلة، تتجاوز ثنائية واشنطن – بكين.
ولا ينبع هذا التوجه فقط من الرغبة في تنويع الشراكات، بل من إدراك عميق لتحوّلات العالم؛ انحسار اليقين في استمرارية التحالفات التقليدية، وتآكل النظام الليبرالي، وتداخل الأزمات الأمنية بين آسيا وأوروبا، كما يظهر في العلاقة المتشابكة بين حرب أوكرانيا ودور كوريا الشمالية.
وتتحرك فرنسا اليوم في آسيا بوعي إستراتيجي يتجاوز الاعتبارات الاقتصادية المباشرة. فالقارة الآسيوية باتت مركز الثقل في التفاعلات الجيوسياسية العالمية، من سلاسل التوريد إلى الابتكار التكنولوجي، ومن أمن الطاقة إلى النزاعات الإقليمية.
وعلى عكس القوى التقليدية التي تميل إلى فرض النفوذ عبر الاستعراض العسكري أو التكتلات الأمنية، تسعى باريس إلى بناء سردية بديلة، تقدم من خلالها نفسها كشريك لا يفرض شروطا، بل يصغي ويقترح توازنات جديدة تحفظ مصالح الدول الصغيرة وتعترف بتنوع نماذج الحكم.