لا حديث يدور بين الأنام هذه الأيام سوى الحديث عن تهديدات اندلاع الحرب بين الجمهورية الإسلامية والدولة العبرية، فالجميع يترقب ما سيحصل بعد اغتيال قائد حركة حماس في عقر طهران وهو ضيفها المميز، مما شكّل صفعة قوية ومدوّية للقيادة الإيرانية، كما دلل على عمق تغلغل الموساد الإسرائيلي داخل إيران، وأن يد إسرائيل الآثمة تطال الجميع، وليس هناك أي استثناء لأي قيادي إيراني مهما علا شأنه ومركزه، في ظل وجود رئيس وزراء إسرائيلي متطرف هوايته المفضلة إشعال النار في كل مكان وزمان. ومن اليسير أيضا ملاحظة أنه ثمّة من يهاجم هذا الرد الإيراني ويقلل من شأنه قبل وقوعه، وهناك من يمتدح هذا الرد ويضخّم من شأنه أيضا قبل وقوعه.
لكن وباعتماد كلّي على ما جرى بين الدولتين من قصف متبادل مسبقا ومناوشات حربية، يمكن التنبؤ بطبيعة الرد الإيراني.. إيران اليوم بين ثلاثة خيارات:
الخيار الأوّل: هو المتابعة في المضي بخيار الصبر الإستراتيجي وعدم الرد نهائيا وابتلاع الإهانة، وهذا مستبعد كليا كونها قررت وبأعلى المستويات الرد العسكري على الاستهتار والصلافة والوقاحة الإسرائيلية منقطعة النظير.
الخيار الثاني: أن ترد إيران بنفس الطريقة التي ردت بها بعد اغتيال سليماني وقصف قنصليتها في دمشق، أي رد منزوع الفتيل، وغايته توجيه رسائل داخلية للشعب الإيراني أكثر من توجيه رسائل خارجية. أي رد عسكري لحفظ ماء الوجه وهو الخيار الأكثر ترجيحا.
الخيار الثالث: وهو مستبعد كالخيار الأوّل، حيث يكون الرد بقسوة وبطريقة مؤلمة ويستهدف قيادات إسرائيلية ويجعلها تحسب ألف حساب قبل أن تكرر فعلتها الشنيعة، أي الرد بالمثل، بحيث يشرّع الباب لحدوث حرب إقليمية في المنطقة، تهرع فيها الولايات المتحدة لحماية شريكتها وطفلتها المدللة، مما يمنح الذريعة المنتظرة لإسرائيل لقصف المفاعلات النووية الإيرانية، فالمطلوب هو رأس البرنامج النووي الإيراني، وهو ما يسعى له بنيامين نتنياهو ويمينه المتطرف بكل الوسائل المنطقية وغير المنطقية.
وخير آية على ذلك، أن اغتيال إسماعيل هنية اتُخِذ في أول يوم من طوفان الأقصى، لكن إسرائيل كانت تتحين الفرصة المناسبة حيث تحقق هدفا أكبر من اغتياله كما جرى بالفعل، فهنية كما هو معروف يقيم في الدوحة وزار تركيا ومصر غير مرة، لكن إسرائيل استبعدت اغتياله فوق أي واحدة من هذه الدول واغتالته في طهران تحديدا.
هذا يؤكد أن إسرائيل تحسب أكثر من حساب لكل من مصر وقطر ولا تنوي استفزازهما، حتى تركيا رغم توتر العلاقات الدبلوماسية لم تصعد إسرائيل معها وتجنبت خيار اغتيال هنية فوق أرضها.
فإسرائيل ستخسر سياسيا ودبلوماسيا عند اغتيالها إسماعيل هنية في أي دولة من الدول السابقة، حيث إن هذا الاغتيال إن حدث سيشكل ردود فعل دولية منددة ليس باغتيال هنية فقط بل لاغتياله فوق أرض من أراضي الدول الثلاث آنفة الذكر، ولهذا قررت اغتياله فوق الأراضي الإيرانية وبالفعل لم يشكل هذا الاغتيال أي ردود فعل سلبية ضد إسرائيل، بل على العكس تماما صمّت غالبية دول العالم آذانها عن الصوت الإيراني المطالب بالتنديد والشجب والاستنكار، فإسرائيل اختارت المكان المناسب قبل تحديد الزمان المناسب وخاصة بعدما تداولت العديد من وسائل الإعلام خبرا مفاده أن إسرائيل كانت تعتزم اغتيال هنية خلال قيامه بواجب العزاء في الرئيس الإيراني السابق رئيسي، أي أن إسرائيل حددت مكان الاغتيال وبالتالي بقي تحديد الزمان المناسب.
من الواضح أن القيادة الإيرانية لا تملك أي إستراتيجية لمواجهة إسرائيل لهذا تتجنب الرد على ما تتسبب به لها من خسائر بشرية وعسكرية، وتقفز كل مرة عن اغتيال قادتها في الشرق الأوسط أو حتى على أرضها، كاغتيال أبي البرنامج النووي الإيراني فخري زاده على سبيل المثال لا الحصر، وفي المقابل لديها إستراتيجية واضحة لمواجهة الولايات المتحدة والاشتباك أو الاتفاق معها سياسيا ودبلوماسيا كما حصل حين توقيع الاتفاق النووي الشهير مع إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
إيران اليوم في وضع لا تحسد عليه نهائيا، فهي لا تجد من يساندها بشكل فعلي وحقيقي على عكس إسرائيل تماما، بغياب واضح ومتعمد من روسيا المنشغلة بحرب أوكرانيا والصين المنشغلة بتايوان وحربها الاقتصادية مع الولايات المتحدة.
لا خيارات كثيرة أمام القيادة الإيرانية اليوم، وأفضل خيار متاح لها هو الحفاظ على اتفاق الصين مع المملكة العربية السعودية والبناء عليه وتجنب استفزازها عبر الحوثي، بل يجب عليها تمتين العلاقات بشكل أكبر مع محيطها العربي والتوقف عن تهديد المصالح الاقتصادية الخليجية في المنطقة، فعلى إيران اليوم أن تلعب دورا مختلفا في المنطقة، أي أن تطمئن جيرانها بشكل أكبر وأن تسوي الخلاف مع الإمارات وتعيد الجزر الثلاث لها، وبهذا تقطع الطريق على إسرائيل والولايات المتحدة باستغلال هذا الخلاف مع الدول العربية.
فموازين القوى المختلّة هي ما سيحدد كيفية تعاطي إيران مع الواقع في المنطقة وتغيير أساليبها القديمة وتصفير مشاكلها مع الدول الخليجية قبل كل شيء، هذا الواقع يتطلب استدارة إيرانية نحو الخليج العربي والمباشرة في سياسة إيجابية جديدة تكون مغايرة للسياسة التي انتهجتها في العقود السابقة.