جواد عناني
لعل هذا السؤال هو من أعقد الأسئلة، ولو أن الموضوع بقي حكراً على العلاقات بين الأردن وفلسطين لكان بالإمكان الإجابة عنه بسهولة. لكن مضى على اتخاذ الأردن في أغسطس/ آب عام 1988 قراراً بفك الارتباط السياسي والدبلوماسي بين الضفتين الشرقية والغربية ردحاً من الزمن، ما أوجد واقعاً جديداً، وأثار إشكالية دستورية وسياسية في الأردن.
وقد جاء قرار الأردن بعد قيام الاتتفاضة الأولى عام 1988 بعدة أيام. وقد تعرض الأردن للضغوط لفك الارتباط منذ 1948، وبعد عقد مؤتمر أريحا (ومؤتمر غزة) في يوم واحد من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني. وفي غزّة عقد المؤتمر بحضور الحاج أمين الحسيني وأحمد حلمي عبد الباقي. أما مؤتمر أريحا فقد عُقد بحضور المغفور له الملك عبد الله الأول بن الحسين والشيخ محمد علي الجعبري من الخليل، وقد بايع الحاضرون من أهل فلسطين الملك عبد الله ملكاً على فلسطين أيضاً.
وقد قاوَمت كل الدول العربية الأعضاء في جامعة الدول العربية ذلك الاندماج بين الضفتين، بما في ذلك العراق الذي كان يحكمه ملك هاشمي، حيث زار نوري السعيد الأردن، وسعى بكل جهده إلى وقف تلك الخطوة. وقد تبنت الدول العربية الأخرى الموقف نفسه. ولكن عام 1950 شهد موافقة مجلس الأمة الأردني على تلك الخطوة، وتقاسمت الضفتان المناصب الوزارية والتشريعية والدبلوماسية. وصارتا اقتصاداً واحداً في ذلك العام، أي قبل اغتيال الملك عبد الله الأول قرب المسجد الأقصى، وبحضور حفيده الراحل الأمير الحسين بن طلال بسنة تقريباً.
ولم تعترف بتلك الدولة الجديدة سوى المملكة المتحدة وجمهورية باكستان التي تأسست عام 1947 بعد انفصالها بحناحيها الغربي والشرقي. وقد تسبب هذا الأمر في تعطيل دخول الأردن عضواً في الأمم المتحدة حتى 1955. وفي ذلك العام، كان الاعتراف بالأردن وفق خريطة تضم الضفتين (الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية) والضفة الشرقية أو منطقة شرق الأردن الواقعة شرقي نهر الأردن. وقد جاء هذا الأمر ليؤكد على أن شرعية دمج الضفتين لم تعد محصورة في الدولتين اللتين اعترفتا بذلك، ولكن الشرعية أصبحت كاملة الأهلية الدولية من الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة. وكان أي اعتداء ترتكبه إسرائيل ضد الأردن قبل عام 1967 يعتبر اعتداء على المملكة الأردنية الهاشمية مثلما حصل في السموع، وبلدة حسام، وقبيه، وغيرها من مجازر إسرائيلية.
وبعد عام 1967، واحتلال الضفة الغربية بالكامل، بدأت ملامح منظمة التحرير الفلسطينية المنشأة في غزّة، والمكونة من أنصار عدم الاتحاد بين الضفتين تتبلور. وبعد عام 1967 تنحى الشقيري عن رئاسة المنظمة، وجاء زعيم حركة فتح ليحل مكانه، وهو الراحل ياسر عرفات.
وفي مؤتمر قمة الرباط عام 1974، نودي بمنظمة التحرير لتكون الممثل الشرعي (و) الوحيد للشعب الفلسطيني بدون تفسير أو تعقيد. وبالرغم من اعتراض الملك الحسين بحرارة في خطابه أمام المؤتمر على القرار، إلا أن ضغوط مصر والمغرب والسعودية بالذات أجبرت الملك على القبول على مضض به. ولعل من المحاذير التي راودت الملك آنذاك تبعية الأردنيين من أصول فلسطينية والحاملين للجنسية الأردنية. وبقيت الإجابة عن السؤال غامضة. وثانيها أن الحركة الصهيونية صارت تزمر وتطبل بأن أكثرية سكان الأردن هم فلسطينيو الأصل، ولذلك صار المتدينون والمدَّعون منهم يقولون إن الأردن هي فلسطين.
وقد قامت إسرائيل والمتطرفون فيها خاصة بتمرير قانون خاص في الكنيست بضم القدس، ونجح اللوبي الصهيوني بتحريك مبادرة داخل الكونغرس الأميركي للاعتراف بذلك الضم، رغم أنهم تركوا القرار للرئيس (أيام جورج بوش الأب) بتحديد الوقت الذي يحول فيه هذه المبادرة إلى قرار تنفيذي. ولما تولّى دونالد ترامب الرئاسة عام 2017 اتخذ قراراً بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القنصلية الأميركية في القدس الغربية. ورغم متانة العلاقة الأميركية الأردنية، من حيث المساعدات واتفاقية التجارة الحرة وتسهيل الاقتراض، إلا أن ذلك لم يحل دون نقل ترامب السفارة والاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل. ومما يزيد الأمر فداحة أن الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية ما زالت تحت الوصاية الهاشمية، أو الأماكن المقدسة الإسلامية على الأقل، وذلك وفقاً لاتفاقية السلام المعقودة بين الأردن وإسرائيل تحت الرعاية الأميركية عام 1994.
هل يستطيع الأردن أن ينفك عن أي مفاوضات نهائية مستقبلية في ما يتعلق بفلسطين، وهل ستتكمن إسرائيل من أن تنفرد وحدها بتنفيذ القانون الخاص الذي مررته في الكنيست حديثاً بعدم السماح بإنشاء دولة فلسطينية؟
لكن القرار الذي صدر عن محكمة العدل الدولية والمفسر وفق مذكرة من (83) صفحة يؤكد أن قرار إسرئيل باطل، وأن فلسطين المحتلة عام 1967 هي أراض فلسطينية تحتلها إسرائيل، وأن المستعمرات والتجمعات المخصصة لليهود فيها وفي القدس الشرقية هي مشروعات غير مشروعة. وقد جاءت إجابات محكمة العدل الدولية رداً على استفسارات مجلس الأمن.
لكن القيادة الإسرائيلية المتطرفة ردت بأن المحكمة تمارس اللاسامية، وأن هذه أراض إسرائيلية، وإن كانت دراسات أجريت على DNA لمعظم سكان إسرائيل من الجالية اليهودية تُبين أنهم لا يمتون للسامية بأي صلة، بل هم غرباء ودخلاء.
ماذا يجب أن يكون الموقف العربي؟ إذا انتهت الحرب قريباً أو لاحقاً، فعلى العرب أن يدركوا أن الجواب الحاسم هو أن الضفة الغربية التي تعامل إسرائيل أبناءها على أنهم مقيمون وليسوا مواطنين قد ردت عليه المحكمة الدولية بأن الإسرائيليين سواء كانوا يهوداً ساميين أو غير ساميين هم الدخلاء على الأرض، وهم المقيمون، وعليهم أن يرحلوا عنها.
وحتى لا تتعقد الأمور أكثر، فإن الأمر يتطلب أن يتخذ مؤتمر القمة العربية الذي عارض يوماً وحدة الضفتين قراراً يغير ذلك الموقف (1974) وأن يؤكد أن الضفة جزء من المملكة الأردنية الهاشمية وهي دولة ذات سيادة، ولا يجوز أن تبقى أراضيها تحت الاحتلال. ولذلك يقوم العرب بالمطالبة صفاً واحداً بعودة الأرض إلى الأردن. ومن بعد ذلك يقوم الأردن وفلسطين بالاتفاق على أن تكون المملكة الأردنية الهاشمية دولة كونفيدرالية مؤسّسة من الأردن وفلسطين، وأن لكل جزء منهما إدارة محلية وإدارة دولية، ويعودان إلى اتفاق عام 1950 في تقسيم المناصب الفيدرالية بحيث يبقى الأردن مملكة.
أما غزة فيجب أن تكون قطعة من فلسطين، ولها إن شاءت أن تدخل في الكونفيدرالية كمكون ثالث بعد الاتفاق مع مصر، التي سيكون لها مثل الأردن علاقات خاصة مع الدولة الكونفيدرالية. ومتى ما استكملت هذه الأجزاء، يوضع جدول كامل لتنفيذ تطبيق توصيات محكمة العدل الدولية والقرارت الدولية الأخرى ذات العلاقة بموجب ضمانات دولية موثقة. ويقوم المجتمع الدولي أيضاً بتقديم (150-200) مليار دولار تعويضات للدولة الكونفيدرالية لإعادة بناء غزة والضفة الغربية.
أما الجدول فيحدد بالتفصيل الخطوات العملية التي ستضمن انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي المحتلة في فلسطين، وتقوم الدولة الجديدة بوضع اتفاقيات أمنية، وحدودية، واقتصادية وعسكرية، تكفل لكل مكون فيها حقه في العيش الكريم الآمن.
وفي ظل التعقيدات التي برزت بفعل الاعتداء الإسرائيلي الشنيع على غزة، فإنني لا أرى حلاً آخر خلال السنوات العشرين المقبلة. هذا رأيي الخاص، والذي أتحمّل مسؤوليته وحدي. والعرب مطالبون بأن يتفقوا على سيناريو مشابه مستفيدين من قرار المحكمة الدولية الاستشاري ومستفيدين من واقع الحرب الحالية، ومدركين أن ضغوطهم الكلية سوف تضع إسرائيل أمام واقع جديد.
جو بايدن المرشح للرئاسة عن الحزب الديمقراطي قرر أن ينسحب من المعركة الانتخابية لصالح كامالا هاريس نائبة الرئيس. هذا القرار المفاجئ قد يكون مساعداً أو معطلاً للسيناريو أعلاه، ولكن يخالجني شعور قوي بأن ترامب ونتنياهو لن يمكثا في الساحة السياسية إلى أكثر من نهاية العام الحالي أو مطلع العام القادم على أبعد حد.