بعيدا عن الجدل فيما إذا كان الرد الإيراني مجرد مسرحية شاركت في إعدادها الولايات المتحدة والدول الوسيطة بحيث تقوم إيران برد محدود ومتفق عليه لا يلحق بإسرائيل خسائر في الأرواح، في حين يمكن التغاضي عن خسائر محدودة في الممتلكات، أو أن ما حدث أمر مختلف يمكن تلخيصه في أن إيران قامت بهجوم جوي واسع النطاق كان يمكن أن يسفر عن خسائر كبيرة في إسرائيل لكنها فوجئت بحجم التدخل الغربي من قبل القواعد الأميركية في المنطقة ومن قبل الطيران الأميركي والبريطاني والفرنسي، وقد شكل كل ذلك غلاف أمان بحيث لم يصل إلى المجال الجوي الإسرائيلي سوى القليل من المسيرات والصواريخ التي تعاملت معها القبة الحديدية الإسرائيلية والوسائط الأخرى المتطورة المضادة للصواريخ والمسيرات.
وبعيدا عن الجدل الذي لا يمكن حسمه دون أن تبقى ظلال من الشك حول جدية الرد أو يقينية الاستنتاج بكونه مجرد مسرحية.
بعيدا عن كل ذلك يكون من المهم التفكير بالنتائج السياسية لتلك العملية العسكرية التي أطلقتها إيران والتي فشلت عسكريا لكنها أدخلت عناصر جديدة في المشهد السياسي المتبدل باستمرار في هذه المنطقة.
وإذا نظرنا أبعد من الآثار الآنية لتلك العملية ومنها استعادة الجيش الإسرائيلي لشيء من مشاعر الزهو بعد أن مرغت حرب غزة سمعته بالوحل، سنلاحظ تحول إسرائيل فجأة من دولة ترتكب جرائم الإبادة شبه معزولة عالميا إلى دولة تدافع عن نفسها ضد العدوان الإيراني.
وهي آثار سلبية دون شك، لكن من المفيد أيضا تجاوزها قليلا للنظر في النتائج الأبعد والأكثر عمقا في السياسة والتي تتجه لتغير معادلات توازن القوى الهش في هذه المنطقة.
فقد أنهت عملية الرد الإيراني حقبة كاملة كانت طهران حريصة فيها على تجنب أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وليس الأمر هنا يقتصر على الباب الذي فتحته إيران – ربما مضطرة – ولكن ولعله الأهم في الباب الذي انفتح لإسرائيل لتصفية حساباتها معها فيما يتعلق ببرنامجها النووي وهو البرنامج الذي سعت إسرائيل دون نجاح لتدميره أو دفعه نحو الوراء على أمل حدوث تغيير في النظام الإيراني في وقت من الأوقات.
والباب الآخر الذي انفتح اليوم أيضا يتعلق بانتهاء المهمة الثمينة التي قامت بها إيران في سوريا بأذرعها العسكرية عبر تمزيق الدولة السورية وبث الروح الطائفية وتهجير نصف الشعب السوري.
وبانتهاء تلك المهمة أصبح الوجود الإيراني في سوريا غير مرحب به في نظر الغرب وإسرائيل، وقد شهد الجميع كيف تدحرج القصف الإسرائيلي للأهداف في سوريا من مرحلة تقليم الأظافر إلى مرحلة غرز الخناجر في قلب ذلك الوجود وصولا لاغتيال رئيس الإدارة الإيرانية لشؤون سوريا ولبنان (المفوض السامي) الجنرال زاهدي. وفَقْدُ النظام الإيراني لصبره الإستراتيجي، لم يكن بسبب تدمير مبنى للسفارة الإيرانية ولا اغتيال جنرال إيراني، وإنما بسبب شعوره أن إسرائيل باتت تستهدف وجوده في سوريا وليس تحجيم ذلك الوجود فقط.
ما حدث صباح الرابع عشر من أبريل من إطلاق مئات المسيرات والصواريخ تجاه إسرائيل لم يكن يهدف للانتقام لزاهدي واستعادة هيبة الدولة الإيرانية فقط ولكنه كان يهدف بصورة أشد من ذلك لردع إسرائيل عن هدف اقتلاع الوجود الإيراني في سوريا باستخدام الموجات المتلاحقة من الاغتيالات والقصف للقوى العسكرية التابعة لإيران ومنشآتها ومخازنها وقادتها أيضا.
لكن فشل العملية العسكرية الإيرانية قد يعطي نتائج معاكسة للهدف الذي توخته إيران، بحيث قد نشهد تصعيدا في ضرب قواها في سوريا. وبالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية فقد انفتح لها الطريق لوضع إيران أمام خيار صعب. فردها بعد اليوم على قصف مصالحها العسكرية في سوريا سيضعها أمام تصعيد يمكن أن يدخل الولايات المتحدة والغرب في مواجهة عسكرية هي ليست مستعدة لها.
ولقد أظهرت عملية الرد الإيراني مدى حضور وتصميم الغرب على حماية إسرائيل والدفاع عنها دون تردد، ذلك الحضور العسكري الذي أدهش العرب والعالم والذي لعب الدور الأكبر في إفشال الهجوم الإيراني.
إيران اليوم تقف أمام خيارات ضيقة وصعبة. لقد أصبح من غير الممكن أن تعود لممارسة الصبر الإستراتيجي في تلقي الضربات الإسرائيلية في سوريا، وحين تتجاوز الخطوط الحمر التي احترمتها طويلا قبل الرابع عشر من أبريل في ردها على تلك الضربات والتي لن تتوقف إسرائيل عن توجيهها لها في سوريا، فسوف تجد نفسها تقترب بسرعة من الفخ الذي ينصبه لها نتنياهو والذي لن يترك الفرصة الذهبية التي لاحت لخلط الأوراق في المنطقة وإبعاد حرب غزة عن المسرح وإنقاذ مصيره الشخصي المهدد.