سلط الباحث المتخصص في الدارسات الأمنية بالشرق الأوسط، توبياس بورك، الضوء على مستقبل الشرق الأوسط لعام 2024 في ضوء استمرار حرب غزة، مرجحا أن تعيد الحرب تشكيل المنطقة بمجرد انتهاء القتال في القطاع، بما قد يشعل 3 ساحات إقليمية، ويهدد نظام المنطقة برمتها.
وذكر بورك، في تحليل نشره موقع المعهد الملكي للخدمات المتحدة (مقره لندن) ، أن العدوان الإسرائيلي دخل شهره الرابع، ومن غير المرجح أن تتوقف إسرائيل وتعلن النصر حتى تتمكن من الادعاء بمصداقية بأنها حققت أهدافها الحربية: إزاحة حماس من السلطة في غزة، وتدمير قدرة الحركة على تشكيل تهديد عسكري لإسرائيل من القطاع، وهي أهداف تبدو غير ملموسة حتى الآن، ولذا فإن الأمر يتطلب تحقيق بعض الانتصارات “الرمزية” على الأقل من وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية.
وتشمل هذه الانتصارات قتل قياديي حماس الكبيرين: يحيى السنوار ومحمد ضيف، اللذين يعتقد على نطاق واسع أنهما العقل المدبر لعملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها كتائب القسام يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ويرى بورك أن تخمين الوقت الذي يحتاجه الجيش الإسرائيلي لتحقيق هكذا أهداف يبدو صعبا، وهناك أسئلة أخرى أكثر صعوبة، منها: كيف تعتزم إسرائيل التعامل مع غزة المدمرة بالكامل تقريباً والسكان النازحين الذين يعانون من الجوع بعد الحرب؟
ويضيف أن الطريقة الأخرى التي يمكن أن تنتهي بها الحرب في غزة ستكون نتيجة للضغوط الأمريكية المتزايدة على إسرائيل لإنهاء القتال، ما سيؤدي في النهاية إلى انضمام واشنطن إلى الإجماع العالمي المتزايد للدعوة إلى وقف إطلاق النار.
وقد يدعم هذه الطريقة تغير خطاب إدارة بايدن تدريجياً على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، من الاحتضان غير المشروط لإسرائيل إلى التحذيرات المتزايدة بشأن العواقب طويلة المدى لتزايد عدد القتلى المدنيين.
لكن بايدن نفسه لا يزال مترددا في القيام بما هو أكثر من مجرد محاولة ممارسة النفوذ على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في السر، بحسب بورك، وإضافة لذلك فليس من المؤكد مدى تقبل نتنياهو بشكل خاص للضغوط الأمريكية على المدى القصير، خاصة في عام الانتخابات الرئاسية الذي قد يرى فيه فرصة لانتزاع أكبر قدر ممكن من المصالح في مناخ سياسي شديد الاستقطاب.
التحدي الإيراني الحوثي
ومع استمرار الحرب في غزة، فإن مخاطر توسع الصراع ستظل قائمة على الدوام، إذ مع بداية عام 2024، انتقل البحر الأحمر والحوثيون في اليمن إلى دائرة الضوء في هذا الصدد من خلال مجموعة من الهجمات على السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل ما أدى إلى تعطيل حركة الشحن في البحر الأحمر بشكل كبير.
وتقود الولايات المتحدة، بدعم من حلفائها الأوروبيين، الرد الدولي، ومن المرجح أن تفعل ما في وسعها لمنع إسرائيل من اتخاذ إجراءات مباشرة ضد الحوثيين.
ومن وجهة نظر واشنطن، من الواضح أنه من الأفضل التعامل مع مشكلة الحوثيين باعتبارها مشكلة شبيهة بتلك التي فرضتها القرصنة قبالة الساحل الصومالي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدلاً من السماح للميليشيا اليمنية بالادعاء أنها جزء من حرب إقليمية ضد إسرائيل والغرب.
ومع ذلك، فإن أي جهد عسكري لإزالة تهديد الحوثيين للشحن الدولي عبر البحر الأحمر من شأنه أن يكون له عواقب، وقد يقلل من فرص إنهاء الحرب في اليمن في عام 2024، حسب تقدير بورك، مشيرا إلى أن التحدي المتمثل في كيفية التعامل مع إيران، بما في ذلك نفوذها في جميع أنحاء الشرق الأوسط وبرنامجها النووي، يجب أن يعود كأولوية قصوى لصانعي السياسات.
وما لم يتم القضاء على الحوثيين بالكامل، وهو احتمال مستبعد إلى حد كبير، فسينجحون، ومعهم داعموهم في طهران، في تغيير أجزاء من المشهد الجيوسياسي بالشرق الأوسط وخارجه، وفي هذه الحالة فإن كل اقتصاد في العالم تقريبًا عليه أن يواجه حقيقة أن إيران وحلفاءها يهددون اثنين من أهم الممرات البحرية في العالم: مضيقي هرمز وباب المندب.
خطر حرب لبنان
ويلفت بورك إلى أن مخاطر التصعيد تلوح في الأفق في بلدان أخرى أيضا، فحتى الآن لم يحدث التصعيد الذي كان يخشاه الكثيرون بين إسرائيل وحزب الله، لكن العنف عبر الحدود الإسرائيلية اللبنانية وصل إلى أعلى مستوياته منذ صراع عام 2006، وإن تجنب الطرفان بحذر الدخول في حرب واسعة النطاق، لكن ذلك قد يتغير في عام 2024.
لكن القصف الإسرائيلي على المناطق السكنية في العاصمة اللبنانية هو من ذلك النوع من التصرفات التي قد تؤدي إلى زيادة الضغوط السياسية على حزب الله، الذي يحب أن يقدم نفسه باعتباره “حامي لبنان”، حسب تعبير بورك.
ومع ذلك، فإن خطر الحرب بين إسرائيل وحزب الله يتجاوز احتمال خروج المواجهة المتبادلة عن نطاق السيطرة، ففي أكتوبر/تشرين الأول، وخوفا من أن يحذو حزب الله حذو حماس ويحاول غزو شمال إسرائيل، أخلى الجيش الإسرائيلي عشرات المستوطنات القريبة من الحدود، بما في ذلك كريات شمونة، المدينة التي يزيد عدد سكانها عن 20 ألف نسمة.
وتواجه الحكومة الإسرائيلية الآن معضلة أنها لا تستطيع أن تطلب من الناس العودة إلى منازلهم ما لم تتمكن من الادعاء بأن وضعهم الأمني قد تغير بشكل ملموس، وتصر على ضرورة التزام حزب الله على الأقل بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 والانسحاب إلى شمال نهر الليطاني، على بعد نحو 20 ميلاً من الحدود مع إسرائيل، لكن لا استجابة من جانب الحزب حتى الآن.
ويرفع ذلك من خطر لجوء إسرائيل إلى استخدام المزيد من القوة مقارنة بما تستخدمه بالفعل في مناوشاتها شبه اليومية مع حزب الله.
وقد يقنع القادة الإسرائيليون أنفسهم بأنهم قادرون على تحقيق أهدافهم من خلال حملة عسكرية محدودة، ولكن أي عمليات تقوم بها القوات البرية الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية قد تؤدي إلى تقويض ضبط النفس الذي أظهره حزب الله حتى الآن، وقد تؤدي إلى حرب قد يكون من الصعب احتواؤها، حسبما يرى بورك.
ويرجح الباحث في أمن الشرق الأوسط أن تمتد الجبهة في الحرب الدائرة إلى ما هو أبعد من لبنان، أي إلى الحدود الإسرائيلية السورية، حيث يقوم حزب الله وغيره من الجماعات المدعومة من إيران بتوسيع مواقعهم منذ فترة طويلة.
غليان الضفة الغربية
وينوه بورك، في هذا الصدد، إلى ساحة ثالثة من المرجح أن تساهم حرب غزة في تفاقم حالة عدم الاستقرار بها، وما يترتب على ذلك من عواقب محتملة على المنطقة ككل، وهي: الضفة الغربية والداخل الإسرائيلي، معتبرا أن كلا منهما “مرتبطين ارتباطاً وثيقاً”.
فعلى الرغم من أن الموت والدمار خيما على غزة، إلا أن الضفة الغربية شهدت أعلى مستويات العنف منذ الانتفاضة الثانية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إذ قُتل أكثر من 450 فلسطينيًا في عام 2023، معظمهم في عمليات للجيش الإسرائيلي، وبعضها على يد مستوطنين إسرائيليين متطرفين، كما قتل 28 إسرائيليًا، من بينهم 24 مدنيًا، في الضفة الغربية في العام ذاته.
ويلفت بورك، في هذا الصدد إلى أن السلطة الفلسطينية، التي تسيطر اسميًا على جزء من الضفة الغربية، “ضعيفة ومحتقرة من الشعب الذي يفترض أنها تمثله”، بينما تقع مسؤولية المنطقة داخل الحكومة الإسرائيلية ضمن اختصاص حلفاء نتنياهو الأكثر يمينية: وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، ووزير المالية، بتسلئيل سموتريش، وكلاهما ملتزمان بمزيد من التوسع الاستيطاني وإزالة أي احتمال لقيام دولة فلسطينية مستقبلية.
وإضافة لذلك، فإن تطلعات حماس إلى توسيع نفوذها في الضفة الغربية “تشكل وصفة لاندلاع الانتفاضة الثالثة”، حسبما يرى بورك، مضيفا: “حتى لو لم يكن هناك تصعيد في عام 2024، فمن المرجح أن تنتقل الضفة الغربية إلى مركز الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المشتعل بمجرد انتهاء الحرب في غزة”.
ويلفت الباحث في أمن الشرق الأوسط أن السياسة الداخلية الإسرائيلية ستكون أحد المحركات الرئيسية للتطورات في الضفة الغربية، فرغم الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي أدى إلى توحيد المشهد السياسي الإسرائيلي شديد الاستقطاب، ولكن من الواضح أن الانقسامات الصارخة لا تزال قائمة.
ففي الأول من يناير/كانون الثاني الجاري، ألغت المحكمة العليا الإسرائيلية الإصلاح القضائي الذي أقرته حكومة نتنياهو بالكنيست في يوليو/تموز الماضي رغم الاحتجاجات الحاشدة ضده، وكان رئيس الوزراء في وضع حرج سياسياً بعد عملية “طوفان الأقصى” التي تمثل أسوأ انهيار أمني في تاريخ إسرائيل، ولذا فإن هزيمته في أي انتخابات مقبلة تعتبر شبه مؤكدة على نطاق واسع.
ومع ذلك، يتوقع بورك أن يكافح نتنياهو وحلفاؤه اليمينيين للبقاء في السلطة، وسيشكل نتيجة ذلك وما ستفعله إسرائيل في غزة والضفة الغربية، مستقبل المنطقة الأوسع طوال عام 2024.
حالة النظام الإقليمي
وبالنظر إلى المستوى الإقليمي، يشير بورك إلى أن حرب غزة قلبت النظام المستقبلي، الذي كان مخططا للمنطقة، رأسا على عقب، وهو النظام الذي بدا وكأنه بدايات ترتيب جديد تتسم بالتركيز العملي الجماعي على وقف التصعيد بين القوى الإقليمية.
وبدت دول الخليج العربية وإيران وتركيا ومصر، وحتى سوريا، عازمة على إيجاد سبل للعمل معاً على الرغم من خلافاتها، وبدا أن التطبيع الإسرائيلي العربي يتقدم نحو التوصل إلى اتفاق نهائي لإضفاء الطابع الرسمي على العلاقات بين إسرائيل والسعودية.
وفي عام 2024، من المرجح أن تسعى القوى الإقليمية إلى الاستمرار بقدر الإمكان في الاتجاه نحو خفض التصعيد، إذ أن التنمية الاجتماعية والاقتصادية المحلية تشكل الأولوية الأولى لأغلب الحكومات في المنطقة، وخاصة حكومات السعودية والإمارات وقطر، الدول العربية الأكثر نفوذاً في المنطقة.
ولكن كما أظهرت أحداث الأشهر الثلاثة الماضية، فإن قدرة هذه الدول على منع الصراعات المعقدة في المنطقة محدودة للغاية، حسبما يرى بورك، ما دفع الولايات المتحدة إلى التدخل المباشر.
وشعر معظم شركاء الولايات المتحدة العرب بالارتياح لهذا التدخل، لأن النشر الضخم للأصول العسكرية الأمريكية في المنطقة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، بهدف ردع إيران وحزب الله، ساعد في تجنب الاتساع الفوري للصراع.
وتبدو الرياض على وجه الخصوص سعيدة لأن الولايات المتحدة تواجه تعطيل الحوثيين لحركة المرور عبر البحر الأحمر، ما يمكّن المملكة من الحفاظ على تفاهمها الهش مع الجماعة التي تأمل أن تسمح لها بإنهاء تدخلها العسكري المستمر منذ 8 سنوات في اليمن.
ومع ذلك، لا يمكن للسعودية وغيرها من الدول الإقليمية أن تتوهم أن الولايات المتحدة تخلت عن رغبتها في عدم اعتبار الشرق الأوسط واحداً من أهم أولوياتها، بغض النظر عمن سيُنتخب رئيساً في نهاية العام.
وفي الوقت نفسه، أظهرت الأزمة الحالية أن الصين و روسيا غير مؤهلتين لدعم أو إدارة الأمن والاستقرار الإقليميين بشكل هادف.
وإزاء ذلك، يخلص بورك إلى أن عام 2024 سيكون مثيرا للقلق في الشرق الأوسط، وأن الحكومات سيتعين عليها التحسب لتوقعات فوضى أكبر بكثير مما ترغب في التعامل معها.