العرب وعبء «الفراغ الاستراتيجي»
التحديات القائمة أبرزت ضرورة توسيع إطار الشراكة في المنطقة العربية إلى المجالات الجيوسياسية التي ترتبط بها عضوياً المصالح العربية.
عودة كتلة الجنوب للرهانات الدولية من منظور «الجنوب العالمي» الذي يَأخذ في بعض الساحات صيغةَ الرفض الصريح للهيمنة الغربية سياسياً وثقافياً.
استفحال الصراعات الداخلية في عدد من البلدان العربية، وصعود الحركات الراديكالية العنيفة، وتزايد تدخل القوى الإقليمية غير العربية بشؤون المنطقة.
خروج العرب من «الخواء الاستراتيجي» في إدراك منطق الدينامية الجيوسياسية الجديدة في العالم، وبلورة مشاريع شراكة جديدة مع دوائر التمدد الإقليمي العربي.
انفجار منظومة العولمة الاقتصادية وبروز تطلعات دولية متنامية لتقويض مركزها وتنويع دوائر التحكم فيها، بما ينعكس في السياسات النقدية والاستراتيجيات التجارية المختلفة.
تصدعت المنظومة الدولية وبرزت قوى عالمية جديدة متمايزة المصالح والمطامح، مما حدا بالبعض للحديث عن عودة الحرب الباردة، وإن كان المفهوم يحيل لوضعية الصراع الأيديولوجي المتجاوز.
* * *
حول هذا العنوان المهم، انعقدت الأسبوع الماضي الندوة الأخيرة من ندوات مهرجان أصيلة الذي يشرف عليه الوزير المغربي المثقف محمد بن عيسى. وكما هو متوقع فقد سيطرت على أجواء الندوة الأحداثُ المأساوية التي يعرفها قطاع غزة في فلسطين الذي يتعرض لعدوان إسرائيلي غير مسبوق، بيد أن لقاءَ أصيلة الفكري تناولَ الموضوعَ في جوانبه الواسعة المعمقة.
ومعلوم أن وزير الخارجية السعودي الأسبق الأمير الراحل سعود الفيصل قد تحدث سنة 2016 عن حالة «الخواء الاستراتيجي» التي يعاني منها العالم العربي، وكان السياق أوانها هو استفحال الصراعات الداخلية في عدد من البلدان العربية، وصعود الحركات الراديكالية العنيفة، وتزايد تدخل القوى الإقليمية غير العربية في شؤون المنطقة.
والواقع أن المعادلة الدولية بتأثيراتها الإقليمية قد تغيرت نوعياً في السنوات الأخيرة، في اتجاهات ثلاث واضحة هي:
أولها تصدع المنظومة الدولية وبروز قوى عالمية جديدة متمايزة المصالح والمطامح، مما حدا بالبعض للحديث عن عودة الحرب الباردة، وإن كان المفهوم يحيل إلى وضعية الصراع الأيديولوجي المتجاوز.
ثانيها عودة الكتلة الجنوبية إلى الرهانات الدولية من منظور «الجنوب العالمي» الذي يَأخذ في بعض الساحات (كما هو الحال في أفريقيا جنوب الصحراء) صيغةَ الرفض الصريح للهيمنة الغربية سياسياً وثقافياً.
ثالثها هو انفجار منظومة العولمة الاقتصادية وبروز تطلعات دولية متنامية لتقويض مركزها وتنويع دوائر التحكم فيها، بما ينعكس في السياسات النقدية والاستراتيجيات التجارية المختلفة.
ومع أن الكتلة العربية ما تزال تعاني، وما يزال العديدُ مِن البلدان مشلول البناء والحركة، فإن الدول العربية الفاعلة نجحت في اقتناص الفرص الجديدة التي وفّرتها المعادلة الدولية الجديدة.
ومن أبرز الأدلة على صحة هذه الملاحظة: انضمام ثلاث من الدول العربية الرئيسية هي الإمارات والسعودية ومصر لمجموعة «بريكس» التي هي من أهم التكتلات العالمية الصاعدة.
إن النتيجة الواضحة من هذه المبادرات هي اعتماد رؤية دينامية للنظام الدولي، تنعكس في التوجهات الاستراتيجية في سياسة تنويع الشراكة الجيوسياسية، ومقاربة الانفتاح الإيجابي على الأطراف الإقليمية الفاعلة، وإطفاء بؤر التوتر والصراع في الإقليم، مع العمل على تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة في البلدان التي تعاني من الفتن والصراعات والحروب الأهلية.
ومع أن النظام الإقليمي العربي المؤسَّس على فكرة الاندماج القومي والعمل المشترك لا يزال هو الإطار الأساسي والثابت لأي توجهات استراتيجية إقليمية، فإن التحديات القائمة أبرزت ضرورة توسيع إطار الشراكة في المنطقة إلى المجالات الجيوسياسية التي ترتبط بها عضوياً المصالح العربية.
ومن أهم هذه المجالات منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي التي ترتبط بصفة وثيقة بالخليج العربي والجزيرة العربية والبلدان النيلية، بما يقتضي تفعيل مشروع «مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن»، بالإضافة إلى منطقة شرق المتوسط التي هي جسر الارتباط الحيوي بين أوروبا وشمال أفريقيا أي مصر ودول المغرب العربي، وكذلك منطقة جنوب وشرق آسيا التي هي الامتداد الطبيعي للبلدان الخليجية، ومن هنا أهمية قمة الرياض الأخيرة بين دول مجلس التعاون الخليجي وكتلة «الآسيان».
في مطلع التسعينيات طُرح مشروعُ «الشرق الأوسط الجديد» الذي تحول في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن إلى مشروع «الشرق الأوسط الموسع» الذي يضم من أفغانستان وباكستان إلى موريتانيا.
كما ظهر في الفترة نفسها مشروعُ الشراكة المتوسطية الذي كانت آخر محاولة لإحيائه مبادرةُ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لبناء «الاتحاد من أجل المتوسط».
ومن الجلي للعيان أن مختلف هذه المشاريع فشلت ولم تترك أثراً على الأرض، نتيجةً لغياب كتلة عربية فاعلة ومنسجمة قادرة على التأثير الإيجابي في السياسات والمقاربات الإقليمية المطروحة دولياً.
وخلاصة الرأي هنا أن خروج العرب من حالة «الخواء الاستراتيجي» التي تحدث عنها الأمير سعود الفيصل (رحمه الله) وتناولتها ندوة أصيلة، يكمن في إدراك منطق الدينامية الجيوسياسية الجديدة في العالم، والتي تقتضي بلورةَ وصياغة مشاريع جديدة للشراكة مع دوائر التمدد الإقليمي العربي في أفريقيا وآسيا وحوض المتوسط، بما يُخرج العالمَ العربي مِن عزلته ويمكِّنه من النهوض المتجدد. وذلك ما أدركته القيادات الجديدة في البلدان العربية المؤثرة والفاعلة.
*د. السيد ولد أباه كاتب وأكاديمي موريتاني