انقلبت الأوصاف المستخدمة بين قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو، بشكل جذري. وبعد أن كان الزعيمان شريكين في الحكم، منذ الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير، عام 2019، أضحت بيانات الجيش تصف قوات «الدعم السريع» بـ»العدو» و«المتمردين» فيما تتحدث بيانات «الدعم السريع» عن «انقلابيين».
تمتلك جيوش الدول، عموما، إحساسا بالاستحقاق باعتبارها المنظومات التقليدية للدفاع عن الحدود من الاعتداء الخارجي، والحفاظ على أمن البلاد عند حدوث طوارئ تقتضي تدخله. هذا الإحساس بالاستحقاق، يجعل قيادة البرهان، على ما يظهر، غير مشغولة كثيرا بإقناع السودانيين بجدوى هذه الحرب، وما هي النتائج التي ستترتب عليها فيما يتعلّق بالقضايا الأساسية التي تشغل السودانيين منذ الاستقلال، وعلى رأسها مسائل التنمية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية.
هذا الشعور بعدم الاستحقاق، وعدم القدرة على تمثيل البلاد عامة، من ضمن قضايا أخرى، يدفع قيادة «الدعم السريع» على ما يبدو، لعدم الاكتفاء بالتوصيفات السالبة فتضطر للذهاب خطوة ابعد من شريكها السابق/ خصمها الحالي، بحيث تحاول شحن صراعها مع الجيش بأهداف سياسية «سامية» بحيث لا يبدو الأمر وكأنه صراع على المصالح والنفوذ ومحاولة الهيمنة على البلاد فحسب.
تصل المبالغة بـ»الدعم السريع» أن يختار يوسف عزت، «المستشار السياسي» لقائدها «حميدتي» الحديث مع قناة إسرائيلية حول تطورات الاشتباكات مع الجيش، عن أن ما يقوم به «الدعم» هو حرب على «الإسلاميين المتطرفين» وعن «شرفاء من الجيش» يقاتلون معهم، وعن «مقاتلين وقناصة أجانب» يقاتلون لصالح البرهان.
التصقت صورة حميدتي بقيادته لـ«الجنجويد» وهي ميليشيات قبائلية عربية اتهمت بمذابح مدعومة من الدولة في دارفور خلال حكم البشير، كما بمراكمته ثروات ومصالح واسعة تضم مناجم ذهب وشركات وبنوك، وباشتراكه مع الجيش بعمليات القتل والقمع والاغتصاب في ما سمي «مجزرة فض الاعتصام» عام 2019، وعمليات القتل والقمع التي استؤنفت ضد الاحتجاجات التي لم تتوقف منذ انقلاب العسكر الأخير على حكومة عبد الله حمدوك عام 2021.
إضافة إلى هذا الجانب الداخليّ من «السيرة المهنية» لحميدتي، فقد كان داعما (ومنافسا) للبرهان على العلاقات مع إسرائيل، والدول المؤثرة إقليميا، كما هو حال علاقته الوثيقة بالإمارات، والتي كانت مشاركة قوات له في اليمن وليبيا أحد تجلياتها، ويبدو أن طموح حميدتي الشديد، ومحاولته جمع أوراق خارجية أكبر بين يديه، دفعه لإظهار انحياز واضح لروسيا، عبر زيارته لموسكو في يوم اجتياح قواتها لأوكرانيا، وعمله على تأمين مرتكز بحريّ لها في السودان، والتعاون مع مرتزقة فاغنر في التدخل بشؤون دول أفريقية عديدة، كما في تأمين خطوط حماية وتجارة لصادراته من الذهب.
أدى الانحياز الأخير لروسيا، إلى تغييرات في المواقف الخارجية تجاه الطرفين العسكريين، فقد أشار قائد قوات «الدعم» على سبيل المثال، إلى أنه لم يتم إعلامه بمجريات اجتماع أخير حصل في السودان مع ساسة وضباط أمن إسرائيليين، كما انعكس هذا الاستقطاب العالمي الجديد أيضا على توطّد علاقات البرهان مع مصر على حساب العلاقات مع حميدتي، وهو ما شهدنا آثاره في المعارك الأخيرة التي أدت إلى أسر «الدعم السريع» لعساكر مصريين، وتدمير طائرات مصرية.
استنكاف الجيش السوداني عن تقديم مبررات سياسية لما يحصل، والاكتفاء بتصريحات عن «العدو» و«المتمردين» هي إشارة إلى أن سيطرة الجيش على البلاد هو مشروع لإنهاء السياسة، وإخضاع السودانيين مجددا لحكم عسكريّ يلغي التسوية المقررة ويحاول إبعاد المدنيين عن الحكم.
أما طلاقة لسان «الدعم السريع» وتصريحات قادته ومستشاريه عن الدفاع عن الحكم المدني، والديمقراطية، ومحاربة «الإسلاميين المتطرفين» والاستنجاد المبطّن بإسرائيل، فليست إلا خدعا بائسة من مجموعة تعلم أن مراكمة سلطاتها الكبيرة، وثرواتها الهائلة، حصل عبر مسار بدأ من الإجرام العنصريّ في دارفور، وانتهى بالتحالفات المشبوهة مع القوى الخارجية، والتدخّل في شؤون الدول الأخرى.