تواجه الولايات المتحدة، بالتأكيد، تحدّيات جيوسياسية كبرى تهدّد مكانتها بوصفها قوة عالمية مهيمنة، ليس أقلها صعود الصين قطباً عالمياً منافساً، والتقارب الروسي – الصيني، والمساعي الحثيثة من بعض الدول، بما فيها حليفة لواشنطن، كالسعودية والهند، إلى تقليص هيمنة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي. لكن، ذلك كله في كفّة، والتهديدات الداخلية لاستقرار نظامها السياسي في كفّة أخرى. ومن المفارقات أن تحدّي شخص واحد، وصل يوماً إلى الرئاسة الأميركية، يوازي، أو هو أشدُّ وطأة على الولايات المتحدة من التهديدات الجيوسياسية الكبرى مجتمعة. إنه الرئيس السابق، دونالد ترامب، الذي وإن عصفت به خسارته الانتخابات الرئاسية عام 2020، وهزيمة حزبه الجمهوري، إلى حد كبير، في الانتخابات النصفية العام الماضي، فضلاً عن خضوعه لتحقيقات جنائية وتجارية وضريبية ومدنية، إلا أنه لا يزال شوكةً في خاصرة النظام السياسي الأميركي برمته، ويهدّد استقرار البلاد كلها. حتى توجيه تهم جنائية له، قبل أيام في نيويورك، لم يفلح في إنهاء حضوره وظاهرته، بل عزّزهما.
أثبت ترامب، مرّة بعد أخرى، رغم محدودية ذكائه الفكري والمعقد وثبوت ذكائه التكتيكي والتعامليِّ النفعيِّ، أنه متجاوز القوانين المتعارف عليها ويخضع لها الآخرون، سواء أكانوا أناساً عاديين أم من طبقته من علية القوم. بطريقة أو بأخرى، نجح في إنشاء قاعدة شعبية واسعة جداً مناصرة له. إنه يتصرّف كشيخ طائفة أخطاؤه مغفورة في أعين مريديه. لا شيء ينتقص من مكانته عندهم، حتى أرذل الأفعال، كحديثه الجنسيِّ المبتذل المسجّل عن امرأة، والذي كان كُشف النقاب عنه خلال حملته الرئاسية عام 2016. قبل ذلك، كان ترامب صرّح بأن في إمكانه أن يطلق النار على أحدٍ ما في شارع مزدحم، ومع ذلك، لا يخسر صوتاً واحداً. وعندما حاول الانقلاب على نتائج الانتخابات الرئاسية، مطلع عام 2021، وحرض على تمرّد على النظام الدستوري واقتحام الكونغرس، بقيت أغلب قاعدته الشعبية الواسعة وفيَّة له. ورغم أنه تسبّب في أداء هزيل لحزبه في الانتخابات النصفية، العام الماضي، إلا أن الحزب الجمهوري لا يزال عاجزاً عن الخروج من تحت عباءته. وحين اقتحم عناصر من مكتب التحقيقات الفدرالي (أف بي آي) مقرّ إقامته في فلوريدا، في أغسطس/ آب الماضي، وصادروا صناديق تحتوي على وثائق مصنّفة “سرّية” أو “سرّية للغاية” أخذها معه بشكل غير قانوني من البيت الأبيض، وقف جلُّ الجمهوريين ومناصريه في صفه. واليوم، ورغم فحش أصل القضية (دفع أموالاً عام 2016 خلال حملته الرئاسية لشراء صمت ممثلة إباحية أقام علاقة جنسية معها عام 2006 من وراء ظهر زوجه الحامل حينها) التي يتابع بها في نيويورك بتهم الاحتيال التجاري وانتهاك قوانين الانتخابات، إلا أن مؤيديه، وحتى أغلب مناوئيه داخل الحزب الجمهوري، اضطرّوا إلى الاصطفاف خلفه.
ترامب تعبير عن ظاهرة أوسع آخذة في التشكّل في الولايات المتحدة على مدى أكثر من عقدين
يشير القرآن الكريم إلى أن دمار حضارات ودول مزدهرة قد يأتي من داخلها، وليس بفعل تحدّيات خارجية تواجهها فحسب. “وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا” (الإسراء: 16). اليوم تجد الولايات المتحدة نفسها أمام هذه المعضلة الوجودية. نسبة معتبرة من الأميركيين، ومن كلا الحزبين الرئيسين، الديمقراطي والجمهوري، لا يثقون بالمؤسّسات الدستورية في البلاد أو أنهم لا يرونها شرعية. بالنسبة لجمهوريين كثيرين، سُرقت انتخابات الرئاسة عام 2020 منهم، وبالنسبة لديمقراطيين كثيرين، المحكمة العليا مختطفة من قبل الجمهوريين. منذ قرابة عقدين وأميركا تعاني من تراجع التوافق الوطني، ليبلغ الانقسام السياسي والمجتمعي درجاتٍ غير مسبوقة منذ أواخر عام 2016. من الصعب جداً أن تجد قضية اليوم، حتى المتعلقة بالأمن القومي الأميركي، تحظى بإجماع أو أغلبية معتبرة في الكونغرس. الصين تلاحظ ذلك، وكان سبق لمسؤوليها أن غمزوا من قناة الديمقراطية الأميركية بأنها “معطوبة”، رداً على اتهامات واشنطن لها بأنها “دولة أوتوقراطية”.
ما سبق لا يعني أن أميركا على شفا حافّة السقوط والانهيار، ولكن سيكون من السفه التغاضي عن المؤشّرات شديدة الوضوح التي تحذّر من هذا المصير إن لم يتمَّ تدارك الأمر. ترامب، رغم فرادة حالته وخطورته، مجرّد تعبير عن ظاهرة أوسع آخذة في التشكّل في الولايات المتحدة على مدى أكثر من عقدين. التقدّميون والليبراليون يجنحون أكثر نحو اليسار، والمحافظون يجنحون أكثر نحو اليمين، والوسط يتلاشى. إنه نوع من التفكّك المجتمعي والثقافي والسياسي الآخذ بالاتساع، وقد يصل إلى مرحلة عصية على الإصلاح. حينها قد يتّسع الخرق على الراقع.