في الوقت الذي تتركز فيه أنظار الغرب على روسيا وسبل احتواء سياساتها العدوانية خاصة بعد غزوها لأوكرانيا في أواخر شباط/فبراير الماضي، حذر جيمس كوران أستاذ التاريخ الحديث في جامعة سيدني الأسترالية والمحلل السابق في جهاز المخابرات الأسترالي من غض الطرف عن الخطر المتزايد للصين على المصالح الغربية.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنترست الأمريكية قال كوران إن الحرب بالوكالة التي تمارسها واشنطن ضد موسكو في أوكرانيا حاليا تعطي الكثيرين في العاصمة الأمريكية شعورا بالنشوة والعودة إلى القيادة العالمية مجددا. وفي حين أصدرت روسيا والصين في شباط/فبراير الماضي بيانا مشتركا، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال مشاركته في أعمال مؤتمر ميونيخ للأمن في شباط/ فبراير من العام الماضي إن العالم الآن بات منقسما بين هؤلاء الذين يرون أن الاستبداد هو أفضل طريق للمضي قدما، وهؤلاء الذين يرون أن الديمقراطية حيوية لمواجهة هذه التحديات.
والحقيقة أن بيان بايدن هو أحدث حلقة في سلسلة بيانات رئاسية أمريكية طويلة منذ 1945 تتحدث عن النضال العالمي للدفاع عن الحرية ضد اعدائها الأيديولوجيين. الفارق هذه المرة هو أن خطاب الرئيس الأمريكي يأتي في محاولته استعادة مصداقية بلاده في الخارج بعد أن تضررت من سياسات سلفه دونالد ترامب التي جعلت حلفاءها في أوروبا وآسيا يشعرون بتخلي واشنطن عنهم. كما أن النظام السياسي الدولي متعدد الأطراف الذي بنته أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية يتعرض لضغط شديد.
ويقول كوران مؤلف كتاب “الأوديسا الصينية في أستراليا: من النشوة إلى الخوف” المنتظر صدوره في آب/أغسطس المقبل، إن التحديات الحالية في أوروبا وآسيا تكثف فقط استعداد البعض في واشنطن لتبنى فكرة “حرب باردة جديدة”، حتى مع إعلان الإدارة الأمريكية صراحة أن هذا نا لا تسعى إليه ، خاصة مع الصين. وتبني هذا المصطلح يثير سلسلة من الذكريات القوية. كما أنه سيكون من الخطأ تقديم سلسلة العقوبات الصارمة والناجحة ضد روسيا بعد غزو أوكرانيا باعتبارها دليلا على نجاح إدارة الرئيس بايدن في صياغة موقف عالمي. فالمرء عندما ينظر إلى مواقف نيودلهي وجاكرتا من حرب أوكرانيا سيدرك محدودية الإطار الأمريكي في مواجهة عالم معقد. وعلى واشنطن إدراك حقيقة أن خوض هذه “الحرب الباردة الجديدة” سيتطلب تبني نهجا أكثر برجماتية وانتهازية وغير أخلاقي في بعض الأحيان كما فعلت في الماضي.
ومنذ وصولها إلى السلطة في كانون الثاني/يناير 2021 تحاول الإدارة الأمريكية التركيز على التعامل مع سياسة ترامب تجاه الصين. ورغم الأزمة الأوروبية الراهنة، تقول الإدارة باستمرار إن الصين تظل أولوية كبرى بالنسبة لها. ويدرك البيت الأبيض أيضا كيف يمكن أن تثور بسهولة مجموعة ذكريات أخرى تشير إلى أن واشنطن تتخلى عن آسيا للتركيز على أولويات في مناطق أخرى.
لذلك يدرك البيت الأبيض جيدا أن شعار “آسيا أولا” البراق الذي ترفعه واشنطن يحتاج إلى تأكيده بالحضور والسياسات. وحتى الآن يتم تطبيق هذا الشعار بنصف المطلوب. فواشنطن لها حضورها الملحوظ في آسيا، وفي أوقات تصاعد التوتر بين واشنطن وموسكو بشأن أوكرانيا، في شباط/فبراير الماضي، شارك وزير خارجية الولايات المتحدة أنطوني بلينكن في اجتماع وزراء خارجية التحالف الرباعي الذي يضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة في ملبورن بأستراليا.
كما سافر وفد أمريكي رفيع المستوى من المسؤولين الأمريكيين السابقين إلى تايوان لإعلان الدعم الأمريكي لجهود تايبيه من أجل تعزيز دفاعاتها العسكرية. وفي أيار/مايو الماضي استضاف الرئيس بايدن قمة لقادة دول جنوب شرق آسيا في محاولة لتوجيه رسالة جديدة بأن واشنطن مستعدة لإعادة الارتباط مع المنطقة. وزار كورت كامبل مهندس السياسة الآسيوية في إدارة بايدن جزر سولومون في أيار/مايو الماضي بعد وقت قصير من توقيع رئيس وزرائها اتفاقية أمنية مع بكين. وهذه الاتفاقية يمكن أن تمثل نموذجا للسياسة الخارجية الصينية في المستقبل بمنطقة آسيا والمحيط الهادي حيث تعتقد الصين أن من حقها إرسال قواتها لحماية استثماراتها والجاليات الصينية في الخارج. وعلى الرغم من رفض الكثير من دول المنطقة الدخول في اتفاقيات أمنية مماثلة مع بكين، فإن الأخيرة ستواصل السعي وراء هذا الهدف. ولذلك فإن طريقة تعامل واشنطن وحلفائها مع هذا الاندفاع الاستراتيجي يمكن أن تحدد ملامح النصف الثاني من ولاية بايدن.
وكما قال إيد لوس في مقال نشرته صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية مؤخرا، فإن واشنطن تخوض منافسة استراتيجية مع الصين وهي تربط إحدى يديها وراء ظهرها. ففي الوقت الذي تعزز فيه الولايات المتحدة حضورها العسكري في مواجهة الصين، فإن البعد الاقتصادي يغوص في الرمال. وقال بول هانل الباحث في مركز كارنيجي الصين للأبحاث إن “الخطر هو أن تصبح الصورة في المنطقة تبدو وكأن الولايات المتحدة تأتي إلى المائدة بالأسلحة والذخيرة، في حين تقدم الصين الخبز والزبد في مجالي التجارة والاقتصاد”.
في الوقت نفسه فإن استراتيجية “آسيا أولا” لدى إدارة بايدن قد تواجه تحديات أخرى إذا ما جاءت نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل في غير صالح بايدن وحزبه الديمقراطي. فقد يؤدي ذلك إلى تعزيز الأصوات المطالبة بمواقف أشد صرامة ضد الصين وتأكيد الالتزام بالدفاع عن تايوان. ومع ذلك ومع تضاؤل مفهوم “الغموض الاستراتيجي” في ظل التعليقات غير المكتوبة الصادرة عن الرئيس الأمريكي يشدد كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية على أن الأولوية هي “لقنوات اتصال إدارة الأزمة وإجراءات تقليل مخاطر تحول المنافسة مع الصين إلى صراع”.
ومع الفوضى الداخلية المحتملة في المشهد السياسي في واشنطن قبل الانتخابات الرئاسية المقررة في 2024، ينفد الوقت أمام الرئيس الأمريكي لكي يبلور سياسته تجاه الصين من خلال نهج أكثر تكاملا يعيد بناء المصداقية الاقتصادية لأمريكا في آسيا.