حسني محلي
تكتسب التطورات الأخيرة أهمية بالغة بالنسبة إلى “تل أبيب” وحماتها من منظمات الصهيونية العالمية، نتيجة أسباب متعدّدة.
من دون العودة إلى صفحات التاريخ التي تتحدث عن اليهود في أوكرانيا، في حدودها الحالية، وكانت جزءاً من روسيا، ثم الاتحاد السوفياتي، وقبلهما تارة من بولندا وأخرى من رومانيا والمجر، تكتسب التطورات الأخيرة أهمية بالغة بالنسبة إلى “تل أبيب” وحماتها من منظمات الصهيونية العالمية، نتيجة أسباب متعدّدة.
لقد وُلدت غولدا مائير والزعيم الصهيوني زئيف جابوتنسكي، مؤسس منظمة الدفاع الذاتي اليهودي، في أوديسا، وبعد ذلك الفيلق اليهودي التابع للجيش البريطاني في أثناء الحرب العالمية الأولى، والذي دخل القدس عام 1917، وأسّس العصابات الإرهابية الصهيونية، ومنها “الهاغاناه” و”أرغون”.
وكان عدد اليهود في أوكرانيا، في حدودها الحالية، نحو 850 ألفاً في عام 1960، وغادر أكثر من نصفهم إلى “إسرائيل” وأميركا ودول أوروبية أخرى حتى سقوط الاتحاد السوفياتي. وعاد البعض منهم إلى أوكرانيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في إطار مخططات صهيونية أرادت “تل أبيب” من خلالها أداء دورين، سياسي واقتصادي، في المنطقة القريبة من دول مهمة بالنسبة إلى اليهود، وهي بولندا وروسيا ورومانيا والمجر ودول البلطيق. وفي عام 2008، تأسست اللجنة اليهودية الأوكرانية في كييف للاهتمام بالقضايا الاستراتيجية للمجتمع اليهودي ومعالجتها، وقالت إنها “ستصبح واحدة من أكثر المنظمات نفوذاً في العالم من أجل حماية حقوق اليهود وحقوق الإنسان في أوكرانيا”. وكان ذلك، من دون شكّ، بتمويل هيئات عالمية وأوروبية، بالتسميات نفسها، وهي الغطاء التقليدي للثورات الملونة التي موّلها اليهودي جورج سوروس.
وفي الانتخابات البرلمانية الأوكرانية عام 2012، عندما فاز الاتحاد الأوكراني، “سفوبودا”، والمعروف بمقولاته المعادية لليهود، بمقاعد في البرلمان الأوكراني، بعد أن حصل على 10.5% من الأصوات، لم تُخفِ المنظمات اليهودية، داخل أوكرانيا وخارجها، قلقها من ذلك، ووصفت الحزب “بأنه نازي جديد”. ومن دون أن يمنع ذلك المنظمات اليهودية وأتباع الحزب المذكور من التعاون الخفي ضد الوجود والتأثير الروسيَّين في أوكرانيا خلال احداث شباط/فبراير 2014، التي أطاحت الرئيس المنتخب فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا وانتخاب بروشينكو الموالي للغرب خلَفا له. وقام بروشينكو وحلفاؤه، من النازيين الجدد ورجال الأعمال اليهود الكبار، بحملة تطهير واسعة للمقربين من موسكو في جميع مؤسسات الدولة الأوكرانية، ونفّذوا عمليات قتل وإجرام ضد السكان ذوي الأصل الروسي في مقاطعة دونباس وأوديسا ومناطق أخرى من أوكرانيا، لينتهي المطاف بقرار موسكو السيطرة على شبه جزيرة القرم، وإعلان حماية دونيتسك ولوغانسك، اللتين أعلنتا الانفصال عن أوكرانيا المركزية.
وجاء الرد من أعداء موسكو على الموقف الروسي هذا، عبر انتخاب اليهودي زيلينسكي رئيساً لأوكرانيا في انتخابات نيسان/أبريل 2019، ليفتح ذلك صفحة جديدة في تاريخ أوكرانيا وعلاقتها بـ”إسرائيل” وروسيا.
فزيلينسكي كان يمثّل في عدد من المسلسلات الكوميدية، وآخرها “خادم الشعب”، وهو المسلسل الذي كان يُبَثّ في 6 محطات تلفزيونية في آن واحد، ويمتلكها رجل الأعمال اليهودي إيغور كولوموسكي، الذي كان يقيم بـ”إسرائيل”، بعد أن هرب من أوكرانيا بسبب تُهَم الفساد المالي وغسل الأموال والتلاعب بالبورصة. وعاد كولوموسكي إلى أوكرانيا بعد فترة وجيزة من انتخاب زيلينسكي، وتعيينه رجل الأعمال اليهودي فلاديمير غرويسمان رئيساً للوزراء، واختار بدوره 4 من اليهود أعضاء في حكومته، بعد أن كان زيلينسكي اليهودي الوحيد الذي يترأّس أول دولة في العالم بعد “إسرائيل”. ولم يكتفِ زيلينسكي، ومن معه، بهذا الكمّ من التضامن مع يهود بلاده، بل دخل في حوار مباشر وعاجل ومكثف مع “تل أبيب” ليكون نتنياهو أول رئيس وزراء “دولة” أجنبية يحلّ ضيفاً عليه بعد شهرين من انتخابه. كما اختار الرئيس الحالي لكيان الاحتلال، إسحاق هرتسوغ، أوكرانيا أولَ دولة اجنبية يزورها (5 تشرين الأول/أكتوبر 2021) بعد أن أصبح رئيساً لـ”إسرائيل”. وكانت أوكرانيا الدولة الأخيرة التي زارها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، إيهود باراك، قبل أن يستقيل (عام 1999)، ليبحث مع المسؤولين في كييف في عملية هجرة أكبر عدد ممكن من اليهود إلى “إسرائيل”.
شهدت علاقات كييف بـ”تل أبيب”، في عهد زيلينسكي وطاقمه اليهودي، بمن فيه أفراد حمايته الخاصة، والذين جاء بهم من “الموساد”، تطورات مثيرة بعد أن اعترف لرجال الأعمال اليهود، ومن يتعامل معهم من النازيين الجدد المدعومين من الاستخبارات الأميركية والبريطانية، بامتيازات واسعة، ليسيطروا على قطاعات اقتصادية مهمة، كالتجارة الداخلية والخارجية، وخصوصاً المعادن والقمح، بالإضافة إلى المصارف والمصانع الحربية التي ورثتها أوكرانيا من الاتحاد السوفياتي. كما لم يتردّد زيلينسكي، بتشجيع من “تل أبيب”، في تصفية الكوادر المقرَّبة من موسكو داخل المؤسسة العسكرية والأمن والاستخبارات وأجهزة الدولة الحساسة. وجاءت زيارة وزير الدفاع الأوكراني، أوليكسي ريزنيكوف، لـ”إسرائيل” في كانون الأول/ديسمير الماضي، لتحمل في طيّاتها عدداً من المعاني بشأن مضمون التعاون العسكري المشترك، بما في ذلك مساعدة “تل أبيب” لكييف في أزمتها مع موسكو.
كان الرئيس بوتين، في هذا الوقت، يراقب التقارب الأوكراني هذا مع “تل أبيب”، وهو يعي جيداً أن “إسرائيل”، وخصوصاً خلال الفترة الأخيرة، لم تعد تكنّ له مشاعر الودّ بسبب مواقفه الأكثر تضامناً مع الرئيس الأسد، على الرغم من الشعور العاطفي الذي يكنّه بوتين تجاه يهود روسيا، الذين يعيشون في “إسرائيل”، ويشكّلون نحو 20% من سكانها. كما هو يعي جيداً أهمية أثرياء روسيا من اليهود، ودورهم في الاقتصاد الروسي، وعلاقاتهم بالمؤسسات المالية العالمية، وخصوصاً الأوروبية، التي يعتمد عليها بوتين في تحديه للعواصم الغربية خلال أزمته الحالية. ومن دون أن تمنع هذه الحسابات وغيرها، ذات العلاقة بالسياسات الروسية في الشرق الأوسط بصورة عامة، الرئيسَ بوتين من التفكير بجدية في الانتقام من حكّام “تل أبيب”، الذين تحدوه أكثر من مرة، وخدعوه في سوريا، وهو ما أدّى إلى إسقاط طائرة روسية بأنظمة الدفاع السورية في الـ 18 من أيلول/سبتمبر 2018.
واستمرت “تل أبيب” في سلوكها الاستفزازي هذا، في عمليات قصف المواقع السورية، صاروخياً وجوياً، على الرغم من التحذيرات الروسية المتكررة. ودفع ذلك بعض الأوساط إلى التشكيك في صدقية الموقف الروسي الداعم لسوريا، وخصوصاً بعد أن تردّدت موسكو في تسليم دمشق أنظمة دفاع جوي متطورة، كصواريخ “أس-300” و”أس-400″، التي أعطتها لأنقرة، عدوة الأسد.
ومع اقتراب الموعد الذي سيختاره الرئيس بوتين للرد على الغطرسة الإسرائيلية وتحدّيها الوجود العسكري الروسي الكبير في سوريا، يتوقع بعض الأوساط في موسكو تحركات روسية محتملة ضد “تل أبيب” قريباً في حال استمرار استفزازاتها في سوريا. وهو ما تعهّده وزير الدفاع الروسي، شويغو، للرئيس الأسد خلال لقائه الأخير معه في دمشق، بعد أن تفقّد المناورات الروسية قرب الحدود مع فلسطين المحتلة، براً وجواً وبحراً. وجاء اتصال الرئيس الأسد المفاجئ (الجمعة) ببوتين ليؤكد هذا التعهّد، الذي سيكتسب قريباً طابعاً عملياً، وفق الحسابات السورية – الروسية المشتركة، وخصوصاً بعد البيان الاستفزازي لخارجية الاحتلال الإسرائيلي، والذي أعلن “تأييد تل أبيب وحدة أوكرانيا وسيادتها”، وعبّر عن “قلقه من مصير الجالية اليهودية، وثمانية آلاف إسرائيلي موجودين (ماذا يفعلون؟) في أوكرانيا”، وليزيد في حجم الفتور والتوتر بين موسكو و”تل أبيب”، التي تستعدّ للردّ الروسي المحتمل. ويفسر ذلك اتصال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينيت، (الأحد) بالرئيس بوتين مقترحاً عليه الوساطة بينه وبين زيلينسكي، وهو ما رفضه بوتين، معبراً عن شعوره السلبي تجاه “تل أبيب”، وهو يعرف أن اقتراح بينيت هو في نفس الوقت اقتراح زيلينسكي.
وفي جميع الحالات، وأياً يكن شكل الرد الروسي على الغطرسة الإسرائيلية، على نحو مباشِر أو غير مباشِر، عبر إعطاء دمشق ما تحتاج إليه من أسلحة متطورة، فلقد بات واضحاً أن بوتين، بعد انتصاره العسكري القريب في أوكرانيا، سيتعامل مع أعدائه وكل مَن يزعجه وفق أسلوب جديد، يثبت من خلاله للجميع، وخصوصاً “إسرائيل”، أن من يشكك في قدرات روسيا سوف يدفع الثمن غالياً، عاجلاً كان أو آجلاً. فهذه هي حال زيلينسكي اليهودي، ومن قبله شاكاشفيلي الأميركي في جورجيا، وأخيراً كل من حاول جسّ نبض الروس في كازاخستان، على أن تكون منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية ساحات بوتين الجديدة، من أجل عرض عضلاته ضد كل من يفكر في معاداته أو إهانته أو الاستخفاف بقدراته الشخصية والرسمية، وهو ما سعت إليه “إسرائيل” ولوبياتها اليهودية المعروفة في سوريا، وقبلها في حرب ناغورنو كاراباخ، والآن في أوكرانيا.
في جميع الحالات، وأيّاً تكن مشاعره الشخصية تجاه يهود بلاده، يعرف الرئيس بوتين جيداً تاريخهم الأسود، منذ أكثر من ألف عام، ليس فقط في روسيا، بل في كل المناطق المجاورة لها، بما فيها أوكرانيا. وسيجعل منها بوتين ساحة لتصفية الحسابات مع كل أعدائه وأعداء روسيا، ولن يستثني منهم حكام “تل أبيب”، قبل أن يتآمروا عليه مع حلفائهم، إقليمياً ودولياً، بعد أن هزمهم جميعاً في أوكرانيا، وقبلها في جورجيا وكازاخستان، وقريباً في سوريا!