تدمري عبد الوهاب
يشهد العالم تحولا مفصليا في العلاقات الدولية بين محور صاعد روسي صيني إيراني يبحث لنفسه عن موقع جديد يتناسب وقدراته الاقتصادية والعسكرية يمكنه من المساهمة في صناعة وصياغة السياسات الدولية، ومحور غربي أمريكي تقليدي هيمن لأكثر من ثلاثة عقود على المؤسسات الدولية واستباح سيادة الدول وثرواتها بعد أن أحدث فيها الخراب عبر التدخلات العسكرية والعقوبات الاقتصادية الأحادية الممارسة من خارج الشرعية الأممية كعقاب جماعي لشعوب الدول المستهدفة وذلك إما بدعوى محاربة الإرهاب او بدعوى درء التهديد عن أمنها القومي من دول تبعد عنها بٱلاف الكيلوميترات، أو بدعوى تسييد نموذجها الديمقراطي كما حدث في كل من أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا واليمن ومن قبلهم يوغوسلافيا الخ…
إن ما تشهده العلاقات الدولية من احتقان يهدد بانفجار شامل تكثفه الحالة الأوكرانية المدعومة من دول المحور خاصة بعد أن بدأت حلقاته الأولى مع الحرب على سوريا وتشدد الدولة الروسية في مطلبها القاضي باعادة صياغة مفهوم الأمن الجماعي الأوروبي والدولي، وذلك بعد أن اتخذت الخطوة الحاسمة في اتجاه الحكومة اليمينية في أوكرانيا عبر التدخل العسكري المباشر الذي تسعى من خلاله إلى تحييد كل المواقع العسكرية التي قد تشكل تهديدا مباشرا للأمن القومي الروسي، وكذا وضع المفاعل النووي تشيرنوبل تحت سيطرتها المباشرة حتى تزيح اي خطر نووي قد يشكله هذا المفاعل خاصة بعد تصريح المسؤولين الأوكرانيين عن نيتهم إنتاج هذا النوع من السلاح، هذا بالإضافة إلى وضع الحكومة الأوكرانية الحالية أمام حقيقة مرة تدحض البناء السياسي الشعبوي الذي أسسوا عليه خطاباتهم السياسية التحريضية ضد روسيا، البلد الذي تربطهم به علاقات تاريخية اقتصادية و ثقافية ولغوية وعرقية قوية، كما تنسف من الأساس رهاناتهم الخاطئة على أمريكا والحلف الأطلسي الذي بدا عاجزا عن التدخل لصالحهم بعد أن توريطها في الصراع نيابة عنهم مع روسيا وبعد التحذير الذي وجهته هذه الأخيرة مؤكدة على استعدادها للرد الواسع على أي عدوان أطلسي في إعمال صريح لنظرية قديمة جديدة قوامها البراغماتية السياسية القائمة على اعتماد القوة لصنع السلام، وهو ما كانت تعتمده حصرا دوائر صنع القرار الأمريكي .
إن التدخل الروسي في أوكرانيا بدعم من الصين، واكتفاء الغرب الأطلسي حتى الٱن بالتنديد وبتشديد العقوبات على روسيا دون اللجوء إلى أي رد عسكري مباشر قد يحمل معه الكثير من التحولات على المدى المنظور سواء بالعلاقة مع أوكرانيا أو بالعلاقة مع أوروبا أو بالعلاقة مع الصراع الأمريكي الصيني الذي عملت أمريكا على تهدئته مؤقتا لتتفرغ لروسيا في المنطقة الشرقية لأوروبا.
بالعلاقة مع أوكرانيا:
إن التقديرات الخاطئة للقيادة السياسية الأوكرانية التي انساقت مع الاستراتيجية الأمريكية في صراعها مع روسيا و رهانها على تدخل الغرب الأطلسي لمساعدتها في حال تعرضها لهجوم عسكري روسي .بالاضافة لعدم استيعابها لوضعها الجيوستراتيجي الذي يحمل تهديدا مباشرا لجارها الشرقي في حال انضمامها لحلف الناتو، وكذا تغاضي القيادة الاوكرانية عن ما يمكن أن تجنيه من منفعة تعود بالرخاء والنماء على الشعب الأوكراني في حال اعتمادها سياسة الحياد في علاقاتها الخارجية من خلال لعب دور الوسيط المحترم بين الغرب وروسيا اللتان تجمعهما علاقات تاريخية اقتصادية وثقافية ولغوية وعرقية قديمة، لكن كما يقول المثل ” ما بني على باطل فهو باطل ” ، وبالرجوع الى طريقة الحسم في السلطة السياسية للقيادة الحالية منذ 2014 بتدخل مباشر من طرف أمريكا وما نتج عنه من تهديد بتفكك الدولة بعد إعلان استقلال منطقة الدونباس بدعم روسي وما أفرزته من نقاشات دولية أسفرت عن الأزمة الأوكرانية التي أفضت إلى اتفاقية مينسك. إذن من خلال هذا الجرد القصير لتطور الأزمة الأوكرانية يمكن أن نتلمس عدم امتلاك القيادة الأوكرانية لاستقلالية في اتخاذ قراراتها بما يخدم مصالح شعوبها ومصالحها الاستراتيجية التي جعلتها مع الأسف في خدمة مصالح الغرب الأطلسي، وبالتالي عدم استشرافها للمخاطر التي تعرض شعوبها لها بحيث تصبح معها أوكرانيا دولة و شعبا الخاسر الأكبر في هذا الصراع الاستراتيجي، وستوضع القيادة السياسية الحالية كنتيجة لهذا الخطأ الجسيم أمام مسؤوليات تاريخية قد تعجل بسقوطها، خاصة بعد أن بدأت تتعالى أصوات من داخل البرلمان الاوكراني مطالبة القيادة بالجلوس إلى طاولة الحوار مع روسيا، وهو ما تبناه الرئيس الأوكراني وعبر عن استعداده لذلك قبل أن يتنصل منه نزولا عند رغبة الغرب الأطلسي خاصة أمريكا التي تريد أن تجعل من إطالة أمد الحرب بموازاة تشديد العقوبات وسيلة لتأزيم روسيا ولو كان على حساب الشعب الأوكراني.
…
بالعلاقة مع أوروبا والحلف الأطلسي :
يمكن القول أن دول أوروبا الغربية وجدت نفسها في هذا الصراع الذي تديره أمريكا عبر الحلف الأطلسي بين المطرقة والسندان، فلا هي قادرة على كبح جماح الطابور الخامس لأمريكا في الناتو والاتحاد الأوروبي الذي ينزع للتصعيد مع حشر بعض دول أوروبا الشرقية التي تدين بالولاء لامريكا قبل أوروبا، ولا هي قادرة على التفكير باستقلالية عن القرار الأمريكي الذي يعقلها، بفعل الاستثمارات الهائلة للشركات الأوروبية الكبرى فوق الأراضي الأمريكية التي ستعمل على تجميد جميع أصول هذه الشركات إن أخذت حكومات هذه الدول قرارات مناقضة لسياساتها، هذا بالإضافة إلى القواعد الأمريكية المتواجدة بكثرة فوق الاراضي الأوروبية، ولا هي قادرة أيضا على كبح جماح روسيا كدولة عائدة بقوة للساحة الدولية التي تربطها معهم علاقات اقتصادية قوية، والتي يبدو أنها سئمت من المواقف المترددة لدول اوربا الغربية والاستفزازات الأمريكية وحلف الناتو الذي يعمل منذ سنوات على تطويقها بعد أن فتح المجال للدول المجاورة لروسيا بالانضمام إليه، وذلك في خرق واضح للتعهدات التي قطعتها بعض دول أوروبا الغربية وأمريكا للرئيس غورباتشوف سنة 1991 القاضية بعدم توسع الحلف شرقا.
كما أن ما يبدو الآن من تلاحم ظاهري للدول الغربية وأمريكا في مواجهة روسيا بعد إعلان الحرب على أوكرانيا، لا يعدو أن يكون مؤقتا وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا سيكون لها ما بعدها على الواقع السياسي والاقتصادي الأوروبي الذي سيخرج منها أكثر انقساما بعد أن دخلها مترددا خاصة مع اتساع رقعة العقوبات وردة الفعل الروسية التي عاجلا أم ٱجلا ستنضم إليها الصين الشعبية لارتباط الدولتين استراتيجيا.
إن ما نشهده الآن من قرصنة للبواخر ونذكر منها ما أقدمت عليه فرنسا ضد الباخرة الروسية والرد المنتظر من روسيا سيعرض الملاحة الدولية للخطر ومع خطوة حظر الأجواء التي أقدمت عليه بعض الدول ضد روسيا وفي حال رد هذه الأخيرة بخطوة أوسع سنكون لا محالة أمام الحظر الكلي او الجزئي للملاحة الجوية، وهو ما سينعكس سلبا على الاقتصاد العالمي ويجعل من حرب العقوبات الاقتصادية سلاحا يفتك بالإنسان والحكومات دون الحجر.
بالعلاقة مع أمريكا والصين :
إن النزاع العسكري الحالي يكثف في حقيقته، عكس ما يبدو في الظاهر، صراعا دوليا ما فتىء يتطور في اتجاه التصعيد منذ أكثر من عشر سنوات على أكثر من جبهة ساخنة عبر العالم سواء في الشرق الأوسط وغرب ٱسيا أو بحر الصين أو إفريقيا أو أوروبا الشرقية، وكلها كانت تحمل رسائل بقرب نهاية الأحادية القطبية وبضرورة تمثل العقل السياسي الأمريكي لهذه التحولات، وأن تقبلها كأمر واقع يتطلب إعادة صياغة مفهوم الأمن والسلم الدوليين الذي تأسس على أساس الثنائية القطبية قبل أن تستأثر به الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، حيث عملت على ملء الفراغ الذي أحدثه هذا الأخير بالاستحواذ على ما كان يتقاسمه معها، مما أتاح لها الهيمنة المطلقة على العالم لثلاثة عقود متتالية غيبت خلالها الانضباط للقانون الدولي الذي فقد قيمته بعد أن فقد العالم توازنه الذي شكله نظام الثنائية القطبية بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا، بل وأصبحت أمركا خاصة وأوروبا الغربية عامة هي من يحتكر صناعة القرار الدولي وكل من لم ينضبط يتعرض للغزو والعقوبات كما حصل في أفغانسان والعراق وليببا و سوريا وغيرها، وذلك في تجاوز سافر للقانون الدولي ومؤسساته التي تدعي احترامه كان ٱخرها موقف ممثلتها في مجلس الأمن يوم 25 فبراير عند طرح المشروع الامريكي القاضي بإدانة روسيا.
لكن العقل السياسي الأمريكي الحالي الذي نشأ على نشوة انتصار أمريكا على المعسكر الاشتراكي وإعلانها السطوة المطلقة على العالم، بحيث أصبحت الآمر الناهي للنظام الدولي، لم يكن مستعدا لتقبل الحقيقة، وهو ما عكسه ميثاق الأمن القومي الأمريكي الذي رغم توفقه في تشخيص التحولات الدولية المتمثلة في القوة التي أصبحت تشكلها كل من الصين وروسيا العائدة بقوة إلى الساحة الدولية، إلا أنه بدل العمل على الاستيعاب الإيجابي لهذه القوى عبر حوارات هادئة تروم الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين بما يضمن مصالح الجميع، نجد أن هذا الميثاق كان بمثابة إعلان حرب ضد هذه الدول عندما وصفها بـ التهديد الرئيسي للأمن القومي لأمريكا بنت عليها استراتيجيتها العسكرية عبر تسخين الجبهة الشرقية لأوروبا من البوابة الأوكرانية وإقحام حلف الناتو ومعه دول أوروبا الغربية في النزاع مع روسيا التي تربطها بها علاقات اقتصادية قوية سواء في مجال الطاقة أو المنتجات الفلاحية والزراعية، وهو ما لا تنظر إليه أمريكا بعين الرضى، وكذا تسخين جبهة بحر الصين الجنوبي عبر تكتل أوكوس العسكري الذي يضم بالإضافة لأمريكا كل من إنجلترا وأستراليا.
إن ما يحدث الٱن إذن في أوكرانيا يفيض على الجغرافية المحلية، لياخذ أبعادا جيواستراتيجية شاسعة ومعقدة، وما تقوم به روسيا عبر تدخلها العسكري في الأراضي الأوكرانية أصبح خيارا يفرض نفسه بقوة لحماية مصالحها الاستراتيجية وكذا نيابة عن الصين وبموافقة منها، وهو ما تدركه أمريكا والغرب الأطلسي جيدا وهو كذلك ما سيفتح الباب في المدى المنظور لحوار استراتيجي بين الغرب الأطلسي وكل من الصين وروسيا بعد أن سقطت أوكرانيا من الحسابات السياسية والعسكرية وبعد كل ما سيفرزه التدخل الروسي في الأراضي الأوكرانية من ارتدادات ستدفع لا محالة الى تعزيز الاصطفافات الدولية و ستدفع بالصين إلى الخروج من موقفها المترقب لكسر العقوبات الاقتصادية المتتالية المفروضة من طرف الغرب الأطلسي على روسيا بعد أن أعلنوا عدم نيتهم الدخول في الحرب المباشرة ضدها.
خلاصة :
إن الحرب الروسية الأوكرانية هي في البداية والنهاية حرب استراتيجية بالنسبة لروسيا التي تسعى من خلالها إلى حفظ أمنها القومي من التهديد الأطلسي الغربي من جهة، وفي نفس الٱن تعدها روسيا انتفاضة على نظام الأحادية القطبية الذي يجب أن يصبح في خبر كان، لصالح عالم متعدد الأقطاب من جهة اخرى.
في المقابل يرى فيها الغرب الأطلسي وخاصة أمريكا بعد أن سلم لها الغرب آمنه الاقتصادي والعسكري ، حربا بالوكالة يؤدي ثمنها الشعب الاوكراني وتخدم في أهدافها الخطط الاستراتيجية لأمريكا كما ورد في ميثاق أمنها القومي، وذلك لتقزيم روسيا من جهة والحفاظ على هيمنتها على العالم من جهة اخرى.
لكن إن كانت روسيا بدخولها الحرب مع الغرب الأطلسي عبر البوابة الأوكرانية، وإذا كانت تهدف في حربها إلى تقويض نظام الأحادية القطبية لصالح عالم جديد متعدد الأقطاب والقول هنا يطال حليفها الاستراتيجي الصين، فإلى أي حد ستبقى الصين منكفئة نسبيا في هذا الصراع الاستراتيجي الذي يهمها أيضا حسب نفس ميثاق الأمن الأمريكي الذي يرى في الصين تهديدا رئيسيا؟ ، هذا في الوقت الذي تواجه روسيا الغرب الأطلسي لوحدها لحدود الساعة، أم أن مسألة الدخول المباشر للصين في هذا الصراع هي مسألة وقت فقط، لأن عدم دخولها ستؤدي عليه الثمن غاليا مستقبلا. كما أن دخولها سيبطل العقوبات على روسيا نظرا لثقلها الاقتصادي والمالي، وأي تلميح لها بالخروج من نظام سويفت كإعلان نية في التضامن مع روسيا، سيغير كثيرا من موازين القوى، وبالتالي سيدفع بالغرب الأطلسي إلى الزاوية الضيقة والجلوس إلى طاولة الحوار للتفاهم على نظام عالمي جديد يضعف فيه الدور الأوروبي لصالح أدوار أكبر لكل من الصين وأمريكا وروسيا.