يعد الأمن الغذائي ركيزة أساسية للأمن القومي لأية دولة، وضامن أساسي لاستقلالية القرار فيها، ويُعّرف تقليديا بأنه “قدرة الدولة على توفير احتياجاتها من خلال مواردها وامكانياتها في إنتاج الغذاء لشعبها”، لكنّ منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) تتوسع في التعريف لتصفه بأنه “توفير الغذاء لجميع أفراد المجتمع بالكمية والنوعية اللازمتين للوفاء باحتياجاتهم بصورة مستمرة من أجل حياة صحية ونشطة”، كما يصدر مؤشر عالمي عن وحدة الأبحاث في مجلة الإيكونيميست البريطانية يصنف الدول بحسب قدرتها على ضمان الأمن الغذائي لشعوبها، وحمايتهم من آفتي الفقر والجوع.
يعتمد هذا المؤشر في تصنيف الدول في أمنها الغذائي، والدرجة الكلية التي تستحقها على عدة معايير أساسية منها؛ قدرة المستهلك على تحمل كلفة الغذاء، وتوافره، وجودته وسلامته، والموارد الطبيعية الخاصة بالحصول عليه، ويستخلص معلوماته من منظمات دولية منها الفاو، والبنك الدولي، كما يمكن للقائمين عليه مراجعة الدولة ذات العلاقة.
يتعرض الأمن الغذائي عالميا لمخاطر شتى مثل التغيرات المناخية، والنزاعات الداخلية، والحروب البينية، والجوائح المرضية، والكوارث الطبيعية، لذلك نجد أن الدول التي عانت أو ما زالت تعاني من النزاعات، أو الاختلالات المناخية، أو الطبيعية، أو الصحية تسجل فروقات كبيرة على مؤشر الأمن الغذائي مقارنة مع غيرها من الدول.
تسيدت جائحة كورونا لعامين كاملين (20-21) وحتى اليوم، عاش فيهما العالم قلقا بالغا، خشية حدوث نقص حاد لا سيما بالمواد الغذائية، بسبب تأثير الإجراءات الاحترازية على سلاسل الامداد العالمية، إذ كان لهذه الإجراءات مثل الإغلاق الجزئي أو الكلي للمعابر البرية والبحرية والجوية، بالإضافة لإغلاق مصانع ومصادر الإنتاج، أثر كبير في تحديد حركة البشر والبضائع إلى مستوى مهم، كما أدى إلى اختلال هائل بين العرض والطلب، بسبب شراء الذعر مع بداية الجائحة، ما كاد أن يفضي إلى انهيار اقتصادي عالمي.
كما هو معلوم، بدأت أزمة الجائحة في الصين أكبر دول العالم سكانا، وأكثرها إنتاجا في جميع انواع البضائع، وخُشي أن تغلق نهائيا، ولو حدث ذلك لواجهت دول العالم نقصا داخليا حادا في شتى أصناف البضائع.
من تأثيرات الجائحة حاولت الدول حماية سوقها المحلي من النقص، فقيدت التصدير حتى للفائض لديها، فهذه روسيا أكبر منتج للقمح تقيد تصديره، لحماية استهلاكها الذاتي، وبالتالي بات عاديا في ظل الأزمة أن تتمسك كل دولة بمصالحها الذاتية، خاصة فيما يتعلق بأمنها الغذائي، مما أوقع العالم في اختلالات كبيرة.
فيما يتعلق بالأمن الغذائي العربي، نجد أن التفاوت بين دول المجموعة العربية كان كبيرا، فمن دول تتمتع شعوبها بضمان والتزام الدولة بالأمن الغذائي لسكانها، حتى في ظل الجائحة، نجد دولا أخرى تتأرجح شعوبها على حافة الجوع، نسبةً لتحالف الجائحة مع النزاعات الداخلية فيها، وهناك دول وسط القائمة تتزحزح درجاتها ضمن أمن غذائي حذر.
على مؤشر العرب للأمن الغذائي دخلت (14) دولة عربية فقط، وغابت عنه ثمان دول عربية، تراوحت درجاتها الكلية بين (73.6) لقطر و(35.7) لليمن من درجة مئة، أما ترتيبها العالمي فكان بين الرتبتين (24) لقطر و(112) لليمن من ضمن (113) دولة، لنجد أن دولة قطر تتقدم العرب للعام (2021)، وبترتيب عالمي (24)، تلتها الكويت ثانيا عربيا وبدرجة (72.2) والرتبة (30) عالميا ، وحلت الامارات ثالثا عربيا وبدرجة (71) ورتبة (35) عالميا، لتستمر سلسلة الدول الخليجية الست متماسكة في رأس القائمة العربية منذ سنوات، وتتأخر رتب الدول الباقية الثلاث على المؤشر ؛ عمان (40) والبحرين (43) والسعودية (44).
تقبع ثلاث دول عربية في ذيل القائمة العربية، بل والعالمية، ممن تعاني نزاعات داخلية مريرة، وهي على التوالي؛ سوريا (106) السودان (110) واليمن (112)، ولم تدخل ثمان دول؛ العراق ولبنان وليبيا والصومال وموريتانيا وفلسطين وجزر القمر وجيبوتي في المؤشر، تبعا لعدم توفر المعلومات الكافية عن المحاور الأساسية للقياس.
سجلت الأردن تقدما دالا احصائيا، وحلت سابعا على المؤشر بعد مجموعة دول الخليج العربي الست مباشرةً، برتبة عالمية (49)، تلتها الجزائر (54)، فتونس (55)، فالمغرب (57)، وانتهت مصر قريبا من ذيل القائمة العربية برتبة (62) عالميا.
هذا التصنيف المفهوم للمجموعة العربية على مؤشر الأمن الغذائي العالمي، بغض النظر عن درجة مصداقية المؤشر، يتوافق غالبا مع الأوضاع العامة فيها، فما بين دول خليجية تترأس القائمة تتمتع بدخول عالية وطنية وأفراد، تمكنها من الصمود في وجه الأزمات إلى دول تعاني نزاعات وانقسامات تقبع في ذيل القائمة، نجد دولا تتوسط القائمة تعاني أوضاعا معيشية واقتصادية صعبة، لكنها تبذل جهدا في الحفاظ على الحد المناسب من الأمن الغذائي.
لكن هل اختل الأمن الغذائي العربي بين مؤشر (2019) أي ما قبل الجائحة وفي مؤشر (2021) أي بعد عامين من امتداد الجائحة؟
تراجعت أربع دول خليجية في ظل الجائحة في الدرجة والرتبة، لكن البحرين سجلت تقدما ملحوظا، والسعودية سجلت تقدما ضئيلا، أمّا قطر الأول عربيا فتراجعت رتبتها بين العامين المذكورين آنفا (11) رتبة، لكنها تقدمت عن العام السابق (2020) أيضا (13) رتبة وبدلالة إحصائية ملفتة، فانتقلت على المؤشر من رتبة (2020،37) إلى رتبة (2021،24) مثلما تراجعت الكويت (9) درجات، وعمان (13) درجة، والامارات (5) درجات، بين عامي (19) و(21) مما يؤكد انعكاس أزمة كورونا في الأمن الغذائي لهذه الدول، متأثرة كما باقي العالم بالإجراءات الاحترازية، وارتباك سلاسل الامداد كما تقدم ذكره.
في الدول المتشبثة بذيل القائمة، نجد أن الجائحة زادت من حدة أزماتها الداخلية، ولتنكص رتبها إلى الذيل تماما.
لكن ما بين رأس القائمة، وذيلها، نرى أن ثلاثا من الدول تقدمت بدلالة إحصائية ملفتة؛ هي الأردن التي تقدمت (11) درجة، ما قبل الجائحة وبعدها، تلتها الجزائر (أول افريقيا) بتقدم كبير من رتبة (2019،70) إلى رتبة (2021،54)، ثم المغرب (ثاني افريقيا) من رتبة (2019،69) إلى رتبة (2021،57)، وحافظت تونس على رتبتها العالمية (55)، وتقدمت مصر رتبتين من (64) إلى (62).
جاءت تركيا في ترتيبها بعد دول مجلس التعاون الست، لكنها تقدمت على باقي العرب، وحافظت إسرائيل على درجة (78) لكن تراجعت رتبتها عالميا عن عام (2020) من رتبة (8) الى رتبة (12) لعام (2021) أي أنها تسبق كل العرب، ولم يوفر المؤشر معلومات عن إيران.
بالتمعن بأرقام المؤشر للعام المنصرم، يتضح جليا أن الجائحة أثرت سلبا عربيا وعالميا على الأمن الغذائي، بل أدى ذلك إلى زيادة حدة الفقر، وزيادة مساحة خريطة الجوع على مستوى العالم، إذ يقدر عددهم اليوم بــ (811) مليون، يشكلون نسبة 10% من سكان العالم، لكن الإمكانيات والسياسات الحكومية المتفاوتة بحدة خاصة بين الدول العربية لعبت دورا أساسيا في التصنيف العالمي، وباتت دول العالم كافة في ظل الجائحة تتحوصل على نفسها، غير آبهة بغير مصالحها الذاتية.