مهند مبيضين
يُبدع الأردنيون في استقبال الديمقراطية السياسة بوصفها ضيفا، يتعاملون معها وكأنها واجب ومهمة، يحضّرون لها الكنافة، ومنابر الخطابة، وينتدبون إليها كلّ نخبهم المتوفرة: شيوخ قبائل ووجهاء، مشايخ دين، متقاعدين عسكريين، رجال مال وأعمال، أكاديميين ومعلمات ومعلمين. وثمة جيل شاب يُحضَّر باعتباره المستقبل ووعده المنتظر، لكن هذا الجيل لا يعوّل كثيراً على البُنى التقليدية التي تقدّم دوماً ممثلين مختلفين عن آمال الشباب.
ما هو دارج في الواقع الأردني والممارسة الشعبية للسياسة، أن المحاسيب (من رجال الدولة والمقرّبين منها) هم أهل الثقة وموضع الاختيار وذاتهم أهل الولاء، وفيما تجري أمام العالم منافسة في التمثيل السياسي والدمقرطة، ويحافظ الأردن على إجراء انتخابات برلمانية لبقائه في مشهدها، إلّا أنّ التحول السياسي والمشاركة والمنافسة جميعها لا تجري على أساس من يملك البرنامج السياسي الأفضل، بل هي منافسة بين من يحظى بالدعم، سواء من الحاضنة الاجتماعية وهي القبيلة، أو الحاضنة المهنية، وهي النقابات المحزّبة هنا، أو الدولة، وهي بمؤسساتها الوظيفية الخدمية والأمنية التي يوفر العمل بها، ورضاها الشرط المسبق غالبا لأي تقدّم في التمثيل السياسي.
جهد الأردن، خلال عقود ثلاثة من التحوّل الديمقراطي، لتحسين صورته في مؤشرات الحريات والدمقرطة العالمية
لا ظواهر سياسية في الأردن أو انعطافات حادّة، منذ التحول الديمقراطي عام 1989، باستثناء قانون الصوت الواحد الذي طُبق عام 1993 بهدف محاصرة المدّ الإسلامي واليسار المعارض آنذاك، ثم جاءت موجة الربيع العربي 2011 – 2016، وهي سنواتٌ شهدت التعديلات الدستورية الأردنية مرتين (2011 و2014)، وإنشاء محكمة دستورية وهيئة مستقلة للانتخاب. ومع ذلك، ظلت الديمقراطية في الأردن في تراجع عن حالة الانفراج التي حدثت عام 1989.
جهد الأردن، خلال عقود ثلاثة من التحوّل الديمقراطي، لتحسين صورته في مؤشرات الحريات والدمقرطة العالمية، وهو دوماً يعتبر بلداً متسامحاً، والحريات فيه أفضل من غيره من الجوار العربي، وهو يُحكم من سلالة عربية هاشمية رفيعة النسب، وقيادته ونظام حكمة موقن بالحرية ووجوب التحديث الذي لأجله خاض الهاشميون معركة التعليم والمعرفة، وهو بلدٌ يستطيع أن يكون أفضل، لكنه للأسف ظلّ في حالة تراجع في مؤشّرات الدمقرطة والحريات، وجديدها مؤشّر “سيفيكوس” الذي وضع الأردن في خانة الدول القمعية، كما أن مؤشّر الإيكونوميست لعام 2021 وضع الأردن في تصنيف الدول المستبدّة. ويغذي ذلك التصنيف ما جرى من اعتقالات لأصحاب الرأي وملف نقابة المعلمين وملف الموقوفين إدارياً وغيرها من ملفات أردنية ملحّة متصلة بنشاط الناس السياسي.
لا أحد يُعلن عدم الولاء للملك عبد الله الثاني سوى المتطرفين الغاضبين، وهم نفر قليل لا تأثير ولا امتداد لهم
صحيحٌ أنّ الأحزاب السياسية في الأردن معتلة، وغير متجذّرة، وتدور حضوراً راهناً بين يسار ماركسي وقومي مأزوم؛ بفعل عدم التجديد في الخطاب، وبين حركة إسلامية منقسمة داخليّاً وعينها على خيباتها في الخارج، وبين قوى وطنية غير قادرة على توفير بديل سياسي ديمقراطي، وهي اليوم غاضبة، وتتهم كل من يحاول التغيير ببيع الوطن وإنهاء وجودهم، وفي ظلّ واقع أردني وعقد سياسي مستقر وثابت لحكم الهاشميين وشرعيتهم، وفي ضوء أن لا أحد يُعلن عدم الولاء للملك عبد الله الثاني سوى المتطرفين الغاضبين، وهم نفر قليل لا تأثير ولا امتداد لهم، إلّا أن الغضب على سياسات الحكومات جرّاء تقصيرها بات يهدّد الديمقراطية، إذ تلجأ الحكومات إلى سياسات وإقرار قوانين تعطّل الحريات والسياسة وتصادر قوة المجتمع في التقدّم.
تجري في الأردن اليوم حركة سريعة نحو تأسيس أحزاب برامجية، استجابة لدعوة الملك عبد الله الثاني ومخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، والتي منها مشروعا قانوني أحزاب وانتخاب يمكّنان المرأة والشباب ويعزّزان العمل الحزبي البرامجي، وثمّة تجديد في العمل النيابي، بمعنى أن هندسة جديدة تنتظر الديمقراطية الأردنية. لكن السؤال هل يمكن إنجاز تحوّل عميق وجذري في غضون ثلاث سنوات، وصولاً إلى برلمانٍ بأكثرية حزبية، وفقاً للقانون المقترح؟
ظلّ النسق السياسي الأردني، دوماً، متأثراً في ظروف الإقليم، وجاءت مخرجات الربيع العربي في المشاركة السياسية سلبية، حتى في تمثيل الناس أنفسهم، وهم الذين لا يُنادون في الأردن بوصفهم رعايا، بل مواطنون، وهو أمر اجتهد لأجله العاهل الأردني في أوراقه النقاشية السبع في مواضيع المواطنة الفاعلة والتحول الديمقراطي والنظام الديمقراطي وسيادة القانون في ظلّ الدولة المدنية وتطوير الموارد البشرية.
المعترف به من الأردنيين، للأسف، دولة من الماضي وليس للمستقبل، دولة الحظوة والعطايا والتمثيل المبرمج
كانت تلك الموضوعات مطروحة للنقاش، بعض أفكارها طُبق وبعضها استعصى مجتمعياً بفعل أن المعترف به شعبياً دولة الريع التي جاءت حكومة عمر الرزاز (2018- 2020) لنقلها إلى دولة الإنتاج، مع الدعوة إلى عقد اجتماعي جديد. وآنذاك كان الرزاز يتحدث بلغة معرفية علمية عالية، لكنها لم تُقبل في الأردن، وواجهت اتهامية عريضة ورُفضت. كما رُفضت مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية عند صدورها شعبيا ومن نخب الحكم، ومن البُنى التقليدية والنخب المحافظة، ما يجعلها محفوفة بخطر الخسارة أو التشويه لمقاصدها، عندها، للأسف، سيخسر الأردنيون لحظة مهمة في سبيل تحديث حياتهم السياسية.
المعترف به من الأردنيين، للأسف، دولة من الماضي وليس للمستقبل، دولة الحظوة والعطايا والتمثيل المبرمج. وهنا ينطبق على الأردنيين المثل الذي يفيد بأن المرء لا يستطيع إرضاء جميع الناس، وإرضاء أبيه، ولكنه يستطيع اختيار أبيه، ذلك الذي يكون لقوله سلطان القانون. وترجمة ذلك أنّ الأردنيين اختاروا دولتهم ونمط حياتهم وعلاقتهم مع الحكم منذ مائة عام، ولم يختاروا خيار التخلي عن علاقتهم في شكل التمثيل الشعبي مع أبيهم الذي هو دولتهم، مع أن الأب يحب أن يستقل عنه أبناؤه، وأن يتحولوا من الاعتماد عليه إلى الاعتماد على الذات. ولكن الشباب الأردني اليوم هم الضحية لتلك العلاقة التبعية، فالأب يبدو اليوم غير قادرٍ على تلبية كل المتطلبات، وهم في خوفٍ من المغامرة بالاستقلال، لكنهم يملكون القدرة على المجازفة بضرورة التحول إلى حياة سياسية وبناء أحزاب برامجية، بصفة تيارات عريضة تعالج مشكلات واقعهم ومستقبلهم الذي ينتظرهم، ويملك الشباب المعرفة العلمية والهوية الواضحة والنظرة الواعية، فهل ينجحون في قطع العلاقة مع الأب لصالح إسناده بأريحيةٍ سياسيةٍ تجعله قادرا على مواجهة مخاطر الإقليم ومزاحمته على هيبته وحضوره مع أقرانه؟