نسَفت القيادة الإثيوبيّة مُفاوضات سد النهضة الثلاثيّة (مِصر والسودان وإثيوبيا) التي كان من المُقرّر أن تُعقَد جولتها الأخيرة غدًا الجمعة في واشنطن برعاية الإدارة الأمريكيّة وصندوق النقد الدولي، وتوقيع اتّفاق توصّلت إليه الجولات السّابقة يتعلّق بمَلئ خزان السّد بالمياه الذي كان موضع خلاف، خاصّةً من جانب مَصر، وتسلّمت الدول المعنيّة مسودّته النهائيّة.
كان لافتًا أنّ هذا الموقف الإثيوبي الصّادم، والمُفاجئ، جاء بعد زيارة مايك بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكيّ إلى أديس أبابا الأسبوع الماضي، وإدلائه بتصريحاتٍ قال فيها إنّ مُفاوضات سد النّهضة الثلاثيّة قد تمتد لعدّة أشهر مُطلِقًا رصاصة الرّحمة على لقاء واشنطن الأخير، ومُتراجِعًا عن تصريحاتٍ سابقةٍ قال فيها إنّ الاتّفاق سيُعلَن نهاية هذا الشّهر، أيّ شباط (فبراير) الحالي.
هذا الانسِحاب الإثيوبي يعني طعنةً “مسمومةً”، وربّما خطوة ابتزازيّة جديدة لمِصر في الوقت نفسه، لإجبارها على القُبول بالشّروط الإثيوبيّة كاملةً دون أيّ نقصان، فإثيوبيا تعتبر كُل القضايا المُتعلّقة بسد النّهضة، سواءً موعد تشغيله، والمدّة المطلوبة لمَلئ خزّانه، وحصص المياه، مسائل سياديّة إثيوبيّة بحتة ممنوعٌ على الآخرين، وخاصّةً مِصر، الخوض فيها على الإطلاق.
الوفدان المِصري والسوداني المُشارِكان في مُفاوضات واشنطن الثلاثيّة غادروا فِعلًا إلى أمريكا، والدبلوماسيّة المِصريّة تقوم على أساس إحراج الطّرف الإثيوبي المُقاطع أمام الحليف الأمريكيّ المُشتَرك، ولكن من الواضح أنّ هذا الطّرف لا يشعر بأيّ إحراج، لأنّه حسم أمره وانحاز بالكامل إلى جانب إثيوبيا على حِساب الحليف المِصريّ.
مِصر تُطالب، مُحقّةً، بالحُصول على حصُتها المُقدّرة بحواليّ 55.5 مِليار متر مكعّب من المياه سنويًّا كاملةً دون أيّ نُقصان، وأن لا تُؤثّر عمليّة مَلئ خزّان سد النهضة سلبًا على هذه الكميُة، إلا في الحُدود الدنيا، وعرَض وفدها المُفاوض أن تمتد فترة مَلئ الخزّان إلى أكثر من سبع سنوات كحد أدنى، ولكن نظيره الإثيوبي يرفض ذلك ويُريد اختصار المدّة من ثلاث إلى أربع سنوات فقط، حسب التّسريبات غير الرسميّة، ممّا سيُقَلِّل حصّة مٍصر إلى حواليّ 30 مِليار متر مكعّب، أو أكثر قليلًا.
هذا الانحياز الأمريكيّ للموقف الإثيوبيّ تقف خلفه دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تُقيم علاقات وثيقةً جدًّا مع الحُكومة الإثيوبيّة، وتعتبرها محور ارتكاز رئيسي لسِياسة اختراقها للقارّة الإفريقيّة، وتُريد تأجيج الصّراع وجرّ مِصر إلى حربِ استنزافٍ إقليميّة.
انسِحاب إثيوبيا يعني مُضيها قُدمًا في خُططها التي تهدف إلى إملاء شُروطها على مِصر بحُجّة أنُ النّيل الأزرق الذي ينبع من مرتفعاتها يُشكِّل 80 بالمِئة من مياه النيل، وهي صاحبة الحق الأكبر في التصرّف بمياهه، باعتبار السودان دولة ممر ومِصر دولة مصَب، وهذا يُشَكِّل تهديدًا وجوديًّا لمِصر، وتجويع حواليّ خمسة ملايين فلّاح مِصري، وتقليص كميّة كهرباء السّد العالي، ومنسوب المِياه فيه، وبُحيرة ناصر بالتّالي.
لُجوء السّلطات المِصريّة إلى التّهدئة وضبْط النّفس وتجنّب التّصعيد لا يُخفِي حقيقةً أساسيّةً وهي أنّ هذا الموقف الإثيوبي المدعوم أمريكيًّا وإسرائيليًّا هو “إعلان حرب” لا يجب السُكوت عنه بأيّ شكلٍ من الأشكال.
إسرائيل لا تُريد مِصر قويّةً مستقرّةً، وتُحاول خلق الأزَمات لها من خلال استخدام الورقة الإثيوبيّة، ومياه النيل نقطة ضعف أمنها المائي الاستراتيجي، لتقويض كُل إنجازات التّعافي الاقتصاديّ الحاليّة، ونسف مُعدّلات التنمية السنويّة التي تتجاوز نظيراتها الصينيّة وتصل إلى ما نسبته 8 بالمِئة، حسب تقارير صندوق النقد الدولي.
مِصر مُهدّدة أمريكيًّا وإسرائيليًّا، وسد النّهضة في رأينا في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” هو أبرز أدوات التّهديد، ولهذا يجب أن تَقِفْ الأمّة العربيّة بأسرِها في خندقها وتقديم كُل وسائل الدُعم لها، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا إذا لَزِمَ الأمر، وبغض النّظر عن الاتّفاق أو الاختلاف مع حُكومتها الحاليّة، فالمسألة مسألة حياة أو مَوت.
مِئَة مِليون مِصري شقيق يُواجهون خطرًا وجوديًّا كبيرًا، يتعلّق بحاضرهم ومُستقبلهم وأمنهم المائيّ والغذائيّ، ونحن في هذه الصّحيفة لا نتردّد مُطلقًا في الانحِياز لهُم، والوقوف في خندقهم، رغم خِلافنا معه في العديد من سِياسات النّظام الحاكِم.