إعداد: د. سماء سليمان
خبير في العلاقات الدولية
يعيش العالم الأن”حربا تكنولوجية باردة” بين الدول الكبرى للسيطرة على العالم “رقميا”، حيث تحاول القوى الدولية استخدام قدرتها في الذكاء الاصطناعي من أجل الحصول على مكاسب على حساب بقية الدول بشكل رئيسي فى الأبعاد الثلاثة للقوة: الاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية، وقد أصبحت القدرة على اختراع واستخدام تكنولوجيا الجيل الخامس هي مصدر القوة للوحدات الدولية ومحور المنافسة القادمة بين القوى الدولية، ولذا بدأت القوى الكبرى سباقًا من أجل الحصول على زعامة جيواستراتيجية وجيوسياسية وجيواقتصادية بهدف تحقيق الريادة والإمساك بزمام قدرات الذكاء الاصطناعى، التى تعد مؤشرًا لحاضر ومستقبل الزعامة الدولية، ومن ثم سوف يعكس هذا السباق على طبيعة النظام العالمي.
أولا: مؤشرات الحرب الباردة تكنولوجيا:
1- حجم الاستثمار الدولي في الذكاء الاصطناعي: فوفقًا لما جاء فى دراسة أجراها مركز Belfer Center for Science and International Affairs حول “الذكاء الاصطناعى والأمن القومي” أن حجم الاستثمار الدولى فى مجال الذكاء الاصطناعى أزداد منذ عام 2010 بنحو 60٪ سنويًا.
2- حجم الأعمال التجارية العالمية له علاقة بمجال الذكاء الاصطناعى: تشير التقديرات إلى أنه فى وقت مبكر من عام 2018، وصل نسبة حجم الأعمال التجارية العالمية التي لها علاقة بمجال الذكاء الاصطناعى إلى حوالي20٪، ومن المتوقع أن يصل هذا الحجم في عام 2020 إلى 85٪ من حجم التفاعلات والتعاملات بين الشركات وعملاء الخدمات. ومن الممكن أن يسهم الذكاء الاصطناعى بمبلغ 12.8 تريليون يورو فى الاقتصاد العالمى فى عام 2030 (7.4 تريليون دولار بسبب بيع منتجات جديدة و5.4 تريليون دولار نتيجة لتحسين مستوى الإنتاجية)، بافتراض زيادة قدرها 14٪ فى الناتج المحلى الإجمالى العالمى.
3-حجم استثمار الشركات الكبرى في الذكاء الاصطناعي: وفقا لدراسة أجراها معهد ماكينزى العالمى حول “الذكاء الاصطناعى، هل هو آخر الحدود الرقمية؟”، فإن الشركات عمالقة تكنولوجيا المسح الضوئى هى التى تستثمر بشكل أكبر فى مجال الذكاء الاصطناعى (من بين نصف وثلاثة أرباع من الـ 26-39 مليار دولار فى عام 2016). وبعد ذلك، يأتى قطاع السيارات والخدمات المالية والطاقة والموارد ووسائل الإعلام والترفيه والنقل والخدمات اللوجستية. وبالرغم من صعوبة فصل الاستثمار فى المجالات المختلفة التى ستكون جزءًا من الذكاء الاصطناعى، إلا أنه يُقدر أنها كرست وخصصت لنفسها ما بين 5 و7 مليارات دولار للتعلم الآلى machine learning.
ثانيا: ملامح الحرب الباردة في مجال الذكاء الاصطناعي:
تعتبر الولايات المتحدة والصين حاليًا القوتين الرئيستين فى مجال البحث والتطوير فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعى، على الرغم من أن سلطات الثانية (الصين) أكثر وعيًا من الأولى (أمريكا) وفقًا لوسائل إعلام مثل صحيفة “نيويورك تايمز”. وقد ركزت الولايات المتحدة فى السنوات الأخيرة على وجود وإنشاء واحدة من أكبر القوى الأكاديمية فى الذكاء الاصطناعى، وهو تطور يسيطر على معظمه القطاع الخاص، تتبعه استثمارات عسكرية أو أجهزة استخباراتية، مثل وكالات IARPA (نشاط مشروعات الأبحاث المتقدمة للمخابرات) وDARPA (وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتطورة). فالأدلة ليست بعيدة عن ادعاءات ترامب الذى أعرب – منذ وصوله إلى السلطة – عن عزمه على تطوير استخدامات الذكاء الاصطناعى لخدمة تحسين الاقتصاد، ولكن أيضًا لصالح الأمن القومى، على الرغم من تقليص حجم الاستثمار المقرر لعام 2018 بنسبة 15٪.
فى حين اختارت الصين الحفاظ على استثمار عام قوى، يقدر بحوالى 7 مليارات دولار سنويًا، فى إطار خطة عمل وطنية طموحة لخلق صناعة يبلغ حجمها 150 مليار دولار بحلول عام 2030.
وتملك إسرائيل ثالث أكبر حصة فى السوق من تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى العالم باستثمارات مباشرة تقدر بنحو مليار و100 مليون دولار خلال عام 2017، وهو عام تم فيه تسجيل سبع شركات مملوكة لإسرائيل من بين الشركات الأكثر تقدمًا فى العالم فى مجال الذكاء الاصطناعى وفقًا لتصنيفات خاصة. فالعلاقة موجودة بشكل تقليدى بين الجيش الإسرائيلى والصناعات التكنولوجية فى البلاد، فضلًا عن البنية الأكاديمية. وتقدر ميزانية اليابان بـ 720 مليون يورو لعام 2018.
وسلكت كندا طريق تمويل القطاعين العام والخاص لتعزيز وإقامة مشاريع لها الريادة فى مجال الأعمال فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعى، ووضع عروض التدريب والتأهيل والأبحاث فى هذا المجال تحت مسئولية وزارة المالية.
وخصصت روسيا ميزانية قدرها 12.5 مليار يورو لأبحاث الذكاء الاصطناعى فضلا عن أنها تستثمر فى القطاع العسكرى.
كما سيكون التحالف الأوروبى للذكاء الاصطناعى مسئولًا عن تطوير استخدمات الذكاء الاصطناعى فى أوروبا قبل نهاية عام 2018 فى نطاق مشروعات ما يسمى “أفق 2020”.
وقد أعلن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون عن استثمار قدره مليار و500 مليون يورو حتى عام 2020، مع التركيز على استراتيجية النمو الخاصة بفرنسا فى إطار توافر النهج واستخدام بيانات الذكاء الاصطناعى.
وفى شهر أبريل من عام 2018، أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على نية ألمانيا دخول حلبة المنافسة فى سباق الذكاء الاصطناعى من خلال إنشاء إطار لصناديق الاستثمار الأجنبية بقيادة أمازون Amazon ، وهو رابع أكبر مركز أبحاث ذو صلة بالذكاء الاصطناعى فى العالم، مقره فى برلين.
وتحتفظ المملكة المتحدة بخط – سواء كان عامًا أو خاصًا- لدعم مشروعات باستثمارات مرتقبة تقدر بحوالى 200 مليون دولار، وتركز على تعزيز طُرق ومناهج البحث التى تشجع المزايا التنافسية، فى إطار وجود نهج أخلاقى.
تعتبر إسبانيا بمن الدول التي وضعت استراتيجية وميزانية، وتعمل منذ عام 2017 على صياغة كتاب أبيض حول مجال الذكاء الاصطناعى.
ثالثا: واقع الحرب الباردة بين القوى الكبرى:
يمكن القول أن الحرب الباردة التي تمثل طبيعة النظام العالمي الحالي لن تكون بين دولتين فقط كما كان الحال سابقا بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ولكنها ستكون بين الصين وأمريكا من ناحية وبين روسيا وأمريكا من ناحية ثانية وبين الصين وروسيا في وقت لاحق من ناحية ثالثة وبين روسيا والاتحاد الأوروبي وبين الصين والاتحاد الأوروبي وذلك حسب تطور العلاقات بين هذه القوى.
ومن ثم نلاحظ أن الولايات المتحدة الأميركية تراهن على الذكاء الاصطناعي لمساعدتها في جمع المعلومات والإلمام بكل المستجدات الدولية المتسارعة. وترى في هذه الآلية الجديدة والمبتكرة درعا منيعا يحافظ على موقعها الريادي العالمي من خلال الاستعانة بها في شؤونها السياسية والعسكرية وحروبها الافتراضية، أمام توجه منافسيها من القوى الكبرى إلى اتخاذ نفس الخطوات ما سيزيد من وتيرة المنافسة الدولية وسيشعل وتيرة الصراع بسبب البحث عن تفوق في هذا المجال.
لا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة الأمريكية، فأوروبا تقع ضحية لخطة الصين 2025، حيث اشترت الصين الشركات التكنولوجية الكبرى ونقل أسرارها في أوروبا. حيث تم 678 صفقة في 30 دولة أوروبية خلال الفترة من 2008-2018، وقد خلُصت بلومبيرج إلى أن الشركات الألمانية أبرمت في العقد الأخير، 225 صفقة مع الشركاء الصينيين بقيمة إجمالية 20.33 مليار دولار، والبريطانيون أبرموا 227 صفقة. وبشكل عام، أُضرت شركات مثل “سيمنز” و”كاواساكي” و”آلستوم” لمنح الصين أسرارها لتفوز بعقود في شبكة النقل السريع الصينية، وهو الأمر الذي دفع البرلمان الأوروبي إلى الموافقة على اقتراح للمفوضية الأوروبية يقضي بإقامة “إطار” أوروبي يتيح فرض رقابة في الاتحاد الأوروبي على الاستثمارات الأجنبية خصوصًا الصينية منها.
هذا وتعارض كل من الصين وروسيا الولايات المتحدة لتوفيرها شبكة إنترنت عالمية ومجانية وبلا حدود. وتستخدم الصين قوتها الدبلوماسية والسوقية للتأثير على المعايير التقنية العالمية وتطبيع فكرة أن الحكومات المحلية يجب أن تتحكم في الإنترنت بطرق تحد من حرية الفرد. ولذا قرر الرئيس الصيني “شي جين بينج” منذ انتخابه في مارس 2013 تغيير العقيدة الصناعية للصين لكي تتخلص من تبعيتها التكنولوجية للغرب، وتصبح دولة عظمي في مجال التكنولوجيا المتقدمة، ومن هنا جاءت استراتيجية “صنع في الصين 2025”.
وختاما، يمكن القول أن النظام العالمي ليس أحادي القطب وكذلك ليس متعدد الأقطاب، ولكنه في حالة صراع بين إرادتين الأولى هي الولايات المتحدة الأمريكية والثانية هي روسيا والصين والدول الكبرى في الاتحاد الأوربي وخاصة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، وأن هذا الصراع سوف يحسمه قدرة كل دولة من تحقيق تطور في امتلاك تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الذي يمكنها من تحقيق التنمية الاقتصادية ولعب دور خارجي مؤثر وقدرة على بسط نفوذها في العديد من دول العالم اقتصاديا وسياسيا وأمنيا، وقدرتها على الردع باستحداث أسلحة يصعب هزيمتها في المعارك العسكرية.
نشرت على موقع:
https://bit.ly/2Qygg9N
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.