مَن يُتابِع لِقاءات العاهِل الأُردنيّ الملك عبد الله الثاني ويستَمِع إلى تَصريحاتِه المُتعلِّقة بالعُلاقات المُستقبليّة مَع الجارَين السوريّ والعراقيّ، يَخرُج بانطِباعٍ راسِخٍ مَفادُه أنّ الأُردن أجرَى مُراجعات جذريّة في سِياساتِه وتَحالُفاتِه، وقرَّر تقليص اعتِماده على دُوَل الخليج ومُساعداتِها الماليّة، بعد أن تَوصَّل إلى قَناعةٍ راسِخةٍ، بأنّها لم يَعُد المُمكِن الاعتِماد على مُساعَداتها الماليّة التي لنْ تَأتِي، وإنْ أتَت فسَتكون شحَيحة، ومُهينَة في الوَقتِ نَفسِه، ومَشروطةٌ بمَطالِب تتعارَض مَع السِّيادة والدَّور الإقليميّ الأُردنيّ، ومَطالِب مُواطِنيه.
حِرص العاهِل الأُردني على تَحسين العُلاقات مَع سورية على وَجه الخُصوص، وتأكيدِه على أنّها ستَعود إلى وضْعِها السابق، يُوحِيان بأنّ تَعاوُنًا سِياسيًّا واقتِصاديًّا واعِدًا في الطَّريق، بِما في ذلِك تَبادُل الزِّيارات الرسميّة، ولا نَستبعِد أن يكون العاهِل الأُردني نفسه هو الزَّعيم الثَّاني أو الثَّالِث الذي سيَزور العاصِمَة السوريّة في الأسابيع القَليلةِ المُقبِلة.
الأنباء القادِمَة مِن العاصِمة الأُردنيّة عمّان تُشير إلى قُرب قِيام الدكتور عمر الرزاز، رئيس الوزراء، بزِيارتيّ عمل إلى كُل مِن أنقرة وبغداد لتَعزيز أواصِر التَّعاون الاقتصاديّ بين هاتَين العاصِمتين وحُكومتيهما والأُردن، وهَذهِ خُطوة مُهِمَّة وإن تأخَّرت كثيرًا، ولكن أن تأتِي مُتأخِّرة خير مِن أن لا تأتِي أبَدًا، ولكن مَصدر الاستِغراب هو عَدم وجود أيّ خُطَّة لزِيارَة دِمشق على جدول أعمال الدكتور الرزاز الحاليّة، وهو يعلَم جيّدًا، بحُكم خبرته الاقتصاديّة، أنّ سورية مُقْدِمَة على ورشة إعمار ضَخمة رُبَّما يَكون للأُردن وشُركاته حِصَّة كبيرة ودَسِمَة فيها.
القِيادة الأُردنيّة أدرَكت، وبسبب المُعاناة الطَّويلة، وحالة الغَليان التي تسود الشارع، أنّ النُّمو الاقتصاديّ الحقيقيّ، وليسَ فرض الضرائب وتحميل المُواطن مَسؤوليّة الأزَمَة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الحاليّة، هو الطَّريق الأقصَر والأسرع نَحو مُواجَهة هَذهِ الأزَمات والسَّير بخُطوات سريعة نحو الاستِقرار، مَن استَمع إلى أقوال مَن التَقوا بالعاهِل الأُردني في الأسابيع القَليلة الماضِية لاحَظوا أنّه يُكَرِّر دائمًا عِبارة تقول “بأنّ زمن التسوّل للمُساعدات مِن دول الخليج وغَيرِها قد انْتَهى، ولا بُد مِن الاعتِماد على النَّفس”.
الحُكومات الأُردنيّة المُتعاقِبة في السَّنوات العِشرين الماضِية تقريبًا، ارتَكَبت أخطاءً عَديدةً، أبرزها الصَّمت على الفَساد والفاسِدين وإهدار المال العام، وعَدم الاستِماع إلى مطالِب الشارع الأُردني المُحِقَّة في تَحسينِ الخَدمات والأوضاع الاجتماعيّة، والقَضاء على البِطالة، وغَلاء المعيشة، وتَبنَّت سِياسات ومواقف تَضَع أولويّة لمطالب الدول الخليجيّة المُتاحَة على حِساب مصالح الأُردن ومصالح دُوَل الجِوار التي كانت وما زالَت وتظَل الحاضِن الطبيعيّ الأقرَب له، والمَخزون الاقتصاديّ الحقيقيّ الذي لم يَخذِل أبَدًا، ومُحاوَلة تَصحيح هَذهِ الأخطَاء بسُرعَة تصويب ضَروريّ لهَذهِ الأخطَاء.
الأُردن ابتَعد عن العِراق وسورية وتركيا إرضاءً ومُجاملةً لدول خليجيّة، وتَجَنُّبًا لإغضابِها، وانْسِجامًا مع سِياسات أمريكيّة كانت وما زالت تُريد زعزعة أمن واستقرار هَذهِ الدول الأقرَب جُغرافيًّا واجتِماعيًّا للأُردن، وثَبُتَ بالمُمارسات والنَّتائِج العمليّة، أن هذا التَّوجُّه خاطِئٌ وأعطَى نتائِج عكسيّة تَمامًا.
المَسؤولون الأُردنيّون يَقولون تبريرًا للانْسِياق خلف السِّياسات والمَواقِف السعوديّة ومُحاوَلة التَّماهِي معَها، أنّ السَّبب يعود إلى الحِرص على وجود أكثر مِن نِصف مليون عامِل ومُوظَّف أُردني في المملكة العربيّة السعوديّة يَدِرّون حواليّ مِليار دولار سَنَويًّا للخَزينة والاقتِصاد الأُردنيّ، ولا نَفهَم لماذا يتم أخْذ هَذهِ المُعادَلة كقَدرٍ يَجِب الالتِزام بِه، فالأشْهُر الأخيرة أثبَتَت أن سِياسَة السعوديّة بالتَّخلُّص مِن العمالة الأجنبيّة تحت عُنوان “سعودة” الوظائِف أعطَت نتائج عكسيّة تَمامًا على الاقتِصاد السعوديّ، مُضافًا إلى ذلِك أنّ العلاقات السعوديّة والخليجيّة مع الأُردن طَريقٌ مِن اتِّجاهين، أو هكذا يَجِب أن تكون، والخَدَمات الأمنيّة التي يُقَدِّمها الأُردن لهَذهِ الدول لا تُقَدَّر بثَمنٍ، لأنّها تتَعلَّق بأمْنِها واستِقرارِها في مِنطَقَةٍ تَعيشُ حالةً مِن الاضْطِرابات غير مَسبوقة.
لعَلَّ إرسال الأُردن مَوظَّفًا عادِيًّا وليس وزير الخارجيّة في المُؤتَمر الإقليميّ لإنتاج حِلف للدول المُشاطِئة للبحر الأحمر هو أحد العَناوين الأبْرَز للتَّحوُّل الجَديد في السِّياسة الأُردنيّة، وهو تَحوُّل يُريد الحِفاظ على هيبة الأُردن ودَورِه ومَكانته الإقليميّة، ولكنّنا ما زِلنا نتَوقَّع، بَل نُطالِب، بخَطواتٍ أكبَر خاصَّةً تُجاه العَدو الإسرائيليّ الذي يُريد تحويله إلى وَطَنٍ بَديلٍ، ويُخَطِّط لإبعاد مِئات الآلاف مِن أهل الضفّة الغَربيّة إلى شَرق النَّهر في إطارِ سِياسته العُنصريّة التي تُريدها، أيّ الضفّة، أرض بِلا سُكّان، أو الحَد الأدنى مِنهُم، وهذا أحَد العَناوين الرئيسيّة لصَفقةِ القَرن.
نَحنُ في هَذهِ الصَّحيفة “رأي اليوم” كُنّا نَتَمنَّى أن يكون العاهِل الأُردني هو الزَّعيم العربيّ الأوّل الذي يَزور دِمشق، وطالما أنّ هَذهِ التَّمنِّيات لم تتحَقَّق، فإنّنا نتَمنَّى أن يكون الثَّاني بحُكم عُلاقة الجِوار التاريخيّة والعَربيّة والتَّجانُس الاجتماعيّ، مِثلَما نتَمنَّى، ونَحنُ على أبوابِ عامٍ جَديدٍ، أن يتَّجِه الدكتور الرزاز شَرقًا لِما هو أبعَد مِن العِراق، أيّ إيران أيضًا، ويُعَزِّز العُلاقات مع تركيا التي ستُصبِح في المُستَقبل القريب القُوَّة العاشِرة اقتِصاديًّا في العالم بإنتاجٍ قَوميٍّ يَزيد عَن تريليون دولار، ورُبَّما يكون التَّقارُب الإيرانيّ التركيّ المُتصاعِد، على الصَّعيد التجاريّ بين البَلدين رُغم الخِلافات السياسيّة، بَل والأيديولوجيّة، دَرْسًا لهُ ولِوَاضِع السِّياسات الاستراتيجيّة الأُردنيّة أيْضًا.