عبدالباري عطوان
السُّؤال الأكبَر الذي يتردَّد حاليًّا في مُعظَم الدِّيوانيّات والمَجالِس الكُويتيّة والخليجيّة يَدور حول الأَسباب التي دَفَعت الأمير محمد بن سلمان وليّ العَهد السعوديّ إلى تأجيلِ زيارته إلى الكُويت يَوْمًا واحِدًا، أي من السَّبت إلى الأحد، ثُمَّ اختصارها في ساعَتَين فقط، اقتصَرت على لقاءٍ قصيرٍ بينه وبين نائِب الأمير كان صاخِبًا حَولَ القضايا الخِلافيّة، وحَفل عشاء رسميّ أقامَهُ أمير الكويت صباح الأحمد على شَرَفِه لم يَطُل ووُصِف بأنّه كان “بارِدًا”، ولم يتم خِلاله أي تَطرُّق للقضايا التي كانت مُدرَجةً على جَدول البَحث، وتَهمها حل الأزَمَة بين البَلدين المُتعَلِّقة بوَقفِ الإنتاج في حَقليّ النِّفط المُشتَركين، الخفجي والوَفرة في المِنطَقةِ المُحايِدة منذ عام 2014، بقَرارٍ من الجانِب السعودي، وكذلك الأزَمَة الخليجيّة، أو بالأَحرى الأزَمَة القطريّة، وإن كانت الأخيرة ثانويّة وروتينيّة، وتراجَعت أهميّتها بشَكلٍ واضِح لإصرار المُعسكَرين المُتخاصِمَين فيها على مَواقِفهما، ورَفضِ أيِّ تَنازُل.
وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصَّةً الكُويتيّة مِنها، ازدَحمت بالتَّفسيرات التي تَدور كُلّها حول فَشَل الزِّيارة، و”غَضَبِ” وليّ العَهد السعوديّ بسبب عدم تَجاوُب حكومة الكُويت مع “إملاءاتِه”، حسب وصف مُعظَمِها، الأمر الذي دَفَع وزارة الخارجيّة الكويتيّة إلى إصدارِ بَيانٍ اليوم عبّرت فيه عن أسَفِها لما جَرى تداوله في وسائِل الإعلام من مَعلوماتٍ حول زيارة الأمير السعودي، وقالت أنّها لا أساسَ لها مِن الصِّحّة، وأكّد البيان أنّ المُباحَثات بين الوَفدَين السعوديّ والكويتيّ اتّسمت بالرُّوحِ الأخويّة الحميمة بين البَلدين.
الأمر المُؤكَّد أنّ هَذهِ اللُّغَة الدِّبلوماسيّة الكويتيّة لم تُقنِع الكَثيرين في الكويت أو السعوديّة معًا، خاصَّةً أنّ زيارة الضَّيف السعوديّ التي هي الأُولى مِن نَوعِها كانَ مِن المُقَرَّر أن تستمرّ ليَومين وليس لساعَتين، وكان الجانب السعودي يُعَوِّل عليها كثيرًا لإحداث اختراقات في المَوضوع الأهم المُدرَج على جدول أعمالها، وهو التَّوصُّل إلى تَسويةٍ مُرضِيةٍ بشأن استئناف الإنتاج مِن الحَقلين المَذكورين، فالأمير بن سلمان كانَ مِن المُقرَّر أن يَلتَقي على هامِشِها وفْدًا مِن رِجال الأعمال، وحَشْدٍ مِن السِّياسيّين والبَرلمانيين والإعلاميّين.
مصدر في الديوان الأميري الكويتي قال في تَسريباتٍ لوكالة “رويترز″ العالميّة، أنّ أجواء الزِّيارة كانَت مُتوتِّرةً للغايَة، ولم يتم التَّوقيع على أيِّ اتفاقيّة اقتصاديّة أو سياسيّة بين الجانِبَين، بينما ذكرت مصادر كويتيّة عالية المُستوى لـ”رأي اليوم” أن علامات الغَضَب و”التَّهَجُّم” كانَت بادِيةً على وَجهِ الأمير الضَّيف والوَفدِ المُرافِق له، ولم يتبادَل مع أمير الكويت إلا كلمات محدودة ذات طابَع عُمومي، وأنّه توجّه إلى طائِرته الخاصّة مع الوَفدِ المُرافِق له فور انتهاءِ مأدُبَةِ العَشاء، مُغادِرًا إلى الرياض.
في مِثل هَذهِ الزِّيارات الرسميّة عالية المُستَوى، يتم إرسال وفد من المَسؤولين والخُبَراء في المواضيع المَطروحة على جَدوَل البحث، لإعداد مُسوَّدةِ الاتِّفاقات التي من المُفتَرض أن يتم توقيعها مِن قِبَل الأمير الزائر، وأمير الكويت، أو من ينوب عنه، ولكن الجانِب الكويتي رفض الصِّيغة السعوديّة المَطروحة، حسب المصدر الكُويتيّ نفسه، الأمر الذي أدَّى إلى تأجيلِ الزِّيارة يومًا واحِدًا من السبت إلى الأحد على أمَل أن يتم إزالة العَقَبات وجوانِب الخِلاف، ولكن هذا التَّأجيل لم يُغَيِّر مِن الأمر شيئًا، وأصرَّ كُل طرف على مَوقِفه، وتَردَّد أنّ الأمير بن سلمان فكّر في إلغاءِ الزِّيارة كُلِّيًّا، بعد أن أبلغه السيد عادل الجبير، وزير الخارجيّة، الذي وصل إلى الكويت يوم الأحد، وقبل وصول وليّ العهد بساعات، أنّ الجانِب الكويتي رَفَضَ المَطالِب السعوديّة، ولوّح باللُّجوءِ إلى التَّحكيمِ الدَّوليّ مُجَدَّدًا.
الأزَمَة بدأت بين السعوديّة والكويت حَول الحَقْلين المَذكورين عام 2014 عِندما رفضت الكُويت إعطاء تأشيرات دُخول لفَنّيين مِن شركة شيفرون، جاءوا من أجل الاشراف على صِيانة الحَقلين، وزيادة طاقتهما الإنتاجيّة، والتَّنقيب في المِنطَقة، ووضعت شركتهم مُعدّاتها داخِل المِنطَقة التَّابِعة لها (أي الكويت) ودُونَ التَّشاور مع الحُكومة الكويتيّة، فردّت السُّلطات السعوديّة بوَقفِ الإنتاج من الحَقلين (الخفجي والوفرة) بحُجَّة إجراء صيانة لهما ودُونَ التَّشاور أيضًا مع الشَّريك الكويتي، واستمرّت هَذهِ الصِّيانة أربَع سنوات، وأدَّى إغلاق الحقلين إلى خسارة الكويت أكثَر مِن 18 مِليار دولار سَنويًّا وليس 10 مِليارات، مِثلَما أشارت بعض التقارير المُسرَّبة، هو قيمة حِصّتها التقديريّة.
زِيارَة الأمير بن سلمان إلى الكويت جاءَت في إطارِ الضُّغوط التي يُمارِسها الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب على السعوديّة لضَخ مِليونيّ بِرميلٍ إضافيين (إنتاج السعوديّة الحاليّ 11 مليون برميل يَوميًّا)، لدَفعِ أسعار النِّفط إلى الهُبوط، واتّصل الرئيس الأمريكي مرَّتين بالعاهِل السعودي حامِلًا هذا الطَّلب وبطَريقةٍ “وَقِحَةٍ”، الأُولى قبل شَهرين ولتَعويضِ أي نَقصٍ في الأسواق العالميّة في حالِ توقُّف صادِرات النِّفط الإيرانيّة (حواليّ 2.4 مليون برميل يوميًّا) نتيجةً للحَظر الأمريكيّ الذي سيَبدأ أوائِل شهر تشرين الثاني (نوفمبر) القادِم، والثانية قَبل يومين فقط، ولتَحقيقِ الهَدف نفسه، وكانت المُكالَمة الأخيرة ذاتَ طابَعٍ تهديديٍّ ابتزازيٍّ عُنوانه الأبْرَز رفع الحِماية الأمريكيّة عن السعوديّة التي لولاها لَما استمرّ النِّظام السعوديّ في الوُجود، ووصلت الوَقاحة بترامب إلى درجةِ القَول في المُكالَمة “أيّها الملك ربّما لن تَكون قادِرًا على الاحتفاظ بطائِراتِكَ لأنّ السعوديّة ستَتَعرَّض لهُجوم، لكن مَعَنا أنتم في أمانٍ تام”.
الحُكومة السعوديّة التي يقول الخُبراء أنّها لا تستطيع إنتاج أكثر مِن مِليون بِرميلٍ إضافيٍّ يوميًّا لأسبابٍ لوجستيّةٍ، وجدت في الحَقْلين المُشتَركين مع الكُويت في المِنطَقة المُحايِدة أحَد الحُلول، أي إضافَة 500 ألف برميل يوميًّا إلى الأسواق، ممّا يُساعِد في تَخفيضِ الأسعار، وبحيث تأتِي هَذهِ الزِّيادة بشَكلٍ طبيعيٍّ، ويُمَكّنها من تَجنُّب غضب الدُّوَل المُنتِجة الأُخرى التي اتَّفقت في لِقاء الجزائر التَّشاوريّ قبل أُسبوعٍ على مُستوى وزراء النِّفط في مُنظَّمة “أوبك” والدُّوَل المُستقلِّة على تَجميدِ الإنتاج وعَدم زيادة أي بَرميلٍ إضافيّ.
العلاقات بين السعوديّة والكويت لم تَكُن جيّدةً طِوال الأشهُر الـ 15 الأخيرة، ويَغلِب عليها طابَع “المُجامَلة” بسبب اتِّخاذ الحُكومة الكويتيّة مَوقِفًا مُحايِدًا في الأزَمَة الخليجيّة، وعدم إرسالها قُوّات بعَددٍ كَبيرٍ للقِتالِ في حرب اليمن في صُفوفِ “عاصفة الحزم”، وكانَ دور طائِراتها المُقاتِلة رَمزيًّا، وزادَ التَّوتُّر في العَلاقات عِندما أبقَت الكويت علاقاتها مع إيران، وأدانَت هُجوم الأحواز الذي أدَّى إلى مَقتلِ وإصابَة 85 عَسكريًّا ومَدَنِيًّا، ووصفته بالعَمل الإرهابيّ، بينما لم تُدِنه الإمارات والسعوديّة وأيّدتاه بشَكْلٍ غير مُباشِر، وعبر تَوظيفِ أجهِزَتها الإعلاميّة في تَبريرِه، واستضافَة مُعَلِّقين يُؤيّدونه ويَعتبرونَه مُقاوَمةً مَشروعَةً وليسَ إرهابًا.
الكويت التي يُعرَف عن أميرها الشيخ صُباح الأحمد “كَظْم الغَيْظ”، تبنّى دِبلوماسيّةَ التَّهدِئة وعَدَم المُواجَهة، خاصَّةً مع الجارِ السعوديّ، وتَجَنُّب أي تَصعيدٍ في الخِلاف، ولكن مساحة الحُريّة الكبيرة التي يَتمتَّع فيها الإعلام الكُويتيّ، ربّما تَكسِر هَذهِ القاعِدة، خاصَّةً أنّ هُناك جِهات كويتيّة غير رسميّة لا تَكُن الكَثير مِن الوِد للسُّلطات السعوديّة، ولن يَكون مُفاجِئًا بالنِّسبةِ إلى الكَثيرين إذا ما جرى تسريب الكَثير من الوَقائِع السِّريّة حول زيارة الأمير بن سلمان للكُويت، والخِلافات التي أدَّت إلى اختصارِها وعَدم التَّوصُّل إلى أيِّ اتِّفاق.
تَوتُّر العَلاقات بين السعوديّة والكويت إذا ما استمرّ ربّما يَنعَكِس سَلبًا على الوِساطة الكويتيّة في الأزَمَةِ الخليجيّة، إن لم يُؤدِّ إلى تَجميدِها، إن لم يَكُن إنهائها، ويعتقد مُراقبون أنّ هذا التَّوتُّر يُلحِق الضَّرر بالجانِب السُّعوديّ أكثَر من نظيره الكُويتيّ، لأنّ السعوديّة والأمير محمد بن سلمان، بحاجةٍ إلى إرضاءِ الحُكومة الأمريكيّة لتَجَنُّب أيَّ مَطبّاتٍ في طَريقِ مسيرته المُتسارِعة لتولّي العرش خلفًا لوالده، وعَدم استئناف ضَخ النِّفط مِن الحُقول المُشتَركة قد يُعطِي نتائِج عكسيّة، وفي الوقت نفسه يُريد وليّ العهد السعوديّ الحُصول على المَزيد مِن الأموال لتَغطِيَة الإنفاقِ الحربيّ الباهِظ التَّكاليف النَّاجِم عن حَربِ اليمن، وربّما تمويل عمليّة إعادَة الإعمار في سورية، خاصَّةً في مِنطَقة شَرق الفُرات الخارِجَة عن نِطاق السِّيادة الرسميّة بطَلبٍ أمريكيّ، فالأمير بن سلمان كان يُعَوِّل على بيع حِصّة في شركة أرامكو لتَعويضِ أيِّ عَجزٍ في الميزانيّة، ولكن بَعد “تجميد” هَذهِ الخُطوة لأسبابٍ ليسَ هُنا مجال ذِكرها، باتَ البَحث عن مصادر أُخرَى للدَّخل أمْرًا حتميًّا، ولعَلَّ إعادَة الإنتاج في حُقول الخفجي والوفرة في المِنطَقة المُحايدة مُناصَفةً هو أحد الحُلول، إن لم يَكُن الحَل الوحيد في الوَقتِ الرَّاهِن.
الظُّروف المُحيطَة بزِيارَة الأمير بن سلمان للكويت، والضُّغوط الأمريكيّة الابتزازيّة الخارِجَة عَن كُل الأعراف الأخلاقيّة، واتِّساع الشَّرخ الذي باتَ يُقَسِّم مجلس التعاون الخليجي إلى مُعَسكَرين واضِحيّ المَعالِم، كلها مُؤشِّرات على أنّ مِنطَقة الخليج تَقِف أمام مُتغيِّرات خَطيرة جِدًّا في ظِل المُحاولات الأمريكيّة المُتسارِعة لتَحويلِها إلى مَيدانِ حَربٍ إقليميّةٍ غَير مُستَبعَدة مع إيران.
وقف هذا الابتزاز الأمريكيّ الوَقِح، ومُراجَعة كُل السِّياسات والمَواقِف التي أدّت إلى تَفاقُمِه، وإصلاح العلاقات مع الحاضِنة العربيّة، والخليجيّة مِنها خُصوصًا، وعلى أرضيّةٍ مُختلفةٍ، يجب أن يكون أولويّة سعوديّة مُلحّة تتقدَّم على كُل الأولويّات الأُخرَى، وتَضَع حَدًّا لحُروب الاستنزاف العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة المُعلَنة أو المُستَتِرة، وإلا فإنّ الأضرار سَتكون كَبيرةً جِدًّا على الصُّعُد كافَّةً