د. شهاب المكاحله
المشهد المشرقي يتسم بتشابك المصالح وتنافس النفوذ، ويكشف عن هشاشة كبيرة في إدارة الأزمات على المستويين الداخلي والإقليمي. التحرك الحكيم يتطلب مزيجاً من السياسة المدروسة، القوة الردعية، والاستراتيجيات متعددة الأبعاد لضمان الاستقرار النسبي، في وقت تظل فيه المخاطر الأمنية والاقتصادية ماثلة على السطح. اليوم، يشهد المشرق العربي، الممتد من جبال اللاذقية إلى السهل العراقي، مرحلة دقيقة من إعادة التشكل السياسي والأمني بعد أكثر من عقد من الحروب والاضطرابات. ما يحدث اليوم ليس انفراجاً ولا انفجاراً، بل تفكيك منظّم للنفوذ، حيث تُعاد صياغة حدود السلطة وأدوار اللاعبين من دون إعلان سقوط أو انتصار.
سوريا: استقرار شكلي وانقسام فعلي
الملف السوري يقف في صلب هذه التحولات. فبينما تبدو دمشق وكأنها استعادت بعض “هيبة الدولة”، فإن ما يجري فعلياً هو تفكيك تدريجي للسلطة المركزية وتوزيعها على مراكز أمنية وإدارية متعددة.
الحديث عن إعادة طرح شخصية من رجالات النظام السابق، أو إعادة تفعيل رموز قديمة يعكس رغبة إقليمية في إيجاد واجهة مدنية جديدة لنظام قديم، تحفظ توازنات روسيا وإيران وتمنح الغطاء السياسي للعواصم العربية التي تسعى لإعادة سوريا إلى الحاضنة العربية دون اعتراف مباشر ببقاء النظام كما هو.
لكن هذا النموذج يحمل بذور هشاشته. فـ”الشبيحة” الذين تحوّلوا من أذرع أمنية إلى شبكات اقتصادية، لا يمكن دمجهم بسهولة في الدولة الجديدة من دون إعادة إنتاج منظومة الفساد نفسها.
وفي المقابل، تسعى قوات “قسد” إلى تثبيت نوع من الحكم الذاتي شمالا، في وقت تدير فيه واشنطن انسحاباً تدريجياً غير معلن، تاركة خلفها ترتيبات ميدانية تحت مظلة روسية. النتيجة: سوريا مجزأة سياسيا ولكنها موحّدة قسريا — دولة واحدة بأجهزة متعددة الولاءات والجنوب السوري (درعا والسويداء) سيتحول إلى منطقة “عازلة” بين الأردن وسوريا بإشراف روسي أردني مشترك.
لبنان: تطويق ناعم لا مواجهة مفتوحة
في لبنان، يتكرر المشهد ذاته على نطاق أصغر. لا أحد يريد الحرب، لكن الجميع يستعد لها. القوى الإقليمية — من واشنطن إلى الرياض وطهران — تتعامل مع الساحة اللبنانية باعتبارها مساحة توازن لا ساحة معركة. الهدف ليس إسقاط حزب الله بل تحجيمه سياسيا واقتصاديا عبر دعم مؤسسات الدولة والجيش وتقييد نفوذه المالي. فالمعادلة اللبنانية الجديدة ترتكز على “التطويق الناعم”: أي خنق الحزب بالعقوبات والمصارف دون كسر التوازن الداخلي الهش.
أما التفاهم السوري–اللبناني قيد التشكل، فيبدو جزءاً من صفقة أوسع تُرسم ملامحها في العواصم العربية، حيث يسعى التحالف المصري–الأردني–السعودي لإعادة ضبط إيقاع المشرق عبر “دمشق مُعادة التأهيل” و”بيروت مُعاد توجيهها”.
العراق: ساحة الضغط المتبادل
في العراق، يتجلى الصراع الأميركي–الإيراني بأكثر أشكاله توازناً. فإيران لا تزال تعتمد على مبدأ “الشرعنة” — أي تحويل الميليشيات إلى مؤسسات رسمية ضمن الدولة، ضماناً لاستمرار نفوذها حتى لو تبدلت الحكومات. في المقابل، تعزز واشنطن حضورها الاستخباراتي والاقتصادي، مفضّلة العمل في الظل بدلاً من العودة إلى المواجهة العسكرية المباشرة.
النتيجة هي نظام مزدوج الولاء: دولة تتحدث بلغة السيادة، لكنها تتحرك وفق توازن بين واشنطن وطهران.
التحالف العربي: استعادة الحزام المشرقي
التحركات المصرية–الأردنية–السعودية تمثل محاولة منهجية لإعادة الهوية العربية للمشرق دون كسر الأنظمة القائمة. فالصفقة المقترحة مع دمشق واضحة: إعادة الإعمار مقابل الابتعاد عن إيران وضبط الحدود الجنوبية.
لكن هذه المقايضة قد لا تصمد طويلاً، لأن النفوذ الإيراني والروسي في البنية العسكرية والاقتصادية السورية بات متغلغلاً أكثر من أن يُفكك بقرار سياسي.
العواصم العربية تدرك ذلك، ولذلك تراهن على “احتواء بارد” بدلاً من “مواجهة ساخن”.
الولايات المتحدة وروسيا: إدارة الانهيار لا منعه
واشنطن وموسكو تتعاملان مع المنطقة من منظور إدارة الأزمات لا حلّها.
الولايات المتحدة تعتمد على أدوات غير مباشرة — استخبارات، عقوبات، واتفاقيات جزئية — لضبط النفوذ الإيراني ومنع روسيا من توسيع وجودها في المتوسط.
أما روسيا، فتركز على تثبيت قواعدها في الساحل السوري والحفاظ على نفوذ رمزي يضمن لها حضوراً في أي تسوية مقبلة.
كلا القوتين تتجنبان المواجهة، وتفضلان ترك المشهد الإقليمي في حالة “استقرار هش” يمكن التحكم به.
نهاية النظام الإقليمي القديم
خلاصة المشهد أن الشرق المشرقي يعيش مرحلة ما بعد الحرب دون أن يدخل مرحلة السلام. فالنظام الإقليمي الذي وُلد بعد 2011 انتهى فعليا، لكن البديل لم يتبلور بعد. فتسويات ما بعد 2025 ستُبنى على معادلات محلية مرنة لا على اتفاقيات كبرى: كل منطقة تبحث عن توازنها الخاص ضمن دولة اسمها واحد، لكن مضمونها متعدّد.
وإذا كان “الربيع العربي” قد فكّك السلطة من الأعلى، فإن المرحلة القادمة تفكّكها من الداخل — ببطء، بصمت، وبتنسيق دولي مدروس.
المشرق في معادلة الصبر البارد
ما يجري في سوريا ولبنان والعراق ليس بداية حرب جديدة ولا نهاية حرب قديمة، بل مرحلة إعادة هندسة السلطة. فالتحالفات تتحرك وفق منطق “الصبر البارد”: لا استعجال للانتصار ولا خوف من الجمود. وفي هذه المسافة الرمادية بين الانفجار والانفراج، يُعاد رسم المشرق كمنطقة “توازنات مفتوحة” لا تعرف المنتصر الأخير.
جيوستراتيجيك ميديا ما وراء الخبر
