المهندس سليم البطاينه
في أواخر سبعينات القرن الماضي كانت الصين غارقة في الفقر والتخلف ،، مُنهكة من التجربة ( الماوية ) المتطرفة عاجزة عن انتاج ما يكفي لإطعام شعبها !
لكن في عام ١٩٨٧ ظهر رجل برؤية مختلفة ، لا يؤمن بالوعود والشعارات وقال عبارته الشهيرة : لا يهم ان كان القط أسود أو أبيض ما دام يصطاد الفئران !
ذلك الرجل هو ( دينغ شياو بينغ ) مهندس النهضة الصينية الذي وضع سكة بلاده على التغيير.
في نهاية السبعينات ظلت السمة الأساسية للاقتصاد الأردني هي ( الاستقرار الماكرو اقتصادي) !
أي نسب تضخم منخفضة بوتيرة نمو متوسطة …… لكن المتابع للشأن الاقتصادي حالياً يذهله التخبط الذي بلغ حالة من الفوضى ! فـ النموذج الريعي للإقتصاد الذي كان متبعاً في السابق أدى الى تشجيع الاستثمارات ذات العائد السريع ( كسوق العقار والمضاربة المالية وغيرها ! ) بدلاً من التوجه نحو الاستثمارات المحفزة للنمو ، والمنتجة المولدة لفرص العمل …… مما حدى بالبنوك التي أطاحت بحكومة الدكتور الملقي ( التي سجلت اقل معدل في الاستدانة مقارنة بالحكومات الأخرى ) بان تصبح غير معنية بتحفيز التنمية أو النهوض بالمشاريع الإنتاجية ! وبات جُل اهتمامها تضاعف ارباحها فقط.
ولكي لا يشطح بنا الخيال بعيداً ، ونكون أكثر واقعية وموضوعية في وصف اقتصادنا حالياً فهو :
– اقتصاد مُترنح بالريعية ! ( احادي البنية باحتلال الميزان السلعي مقابل احادية الصادرات ).
– ديون الدولة تفوق حجم الاقتصاد.
– يعاني من مشاكل هيكلية عميقة أهمها : الاعتماد المفرط على الاستدانة والمنح والمساعدات.
– غيابٌ شبه تام للتنوع الانتاجي.
– تابعٌ غير قادر على مواجهة الأزمات باعتماده على مصادر لا ترتبط بدائرة الإنتاج.
– يشهد تنامياً لتكاليف الاقتراض ( خدمة الديون ).
– يعاني من ارتفاع تكاليف توليد الطاقة ومن كلف تمويل مدخلات الإنتاج.
في الحسابات الواقعية ما زال الاقتصاد الأردني يبتعد عن الخروج من الحالة المأزومة التي يعاني منها ! ويرجع ذلك إلى ان معظم الحكومات السابقة ( بإستثناء حكومة الدكتور الملقي ) تنصلت من مسؤولية الملف الاقتصادي بحجة تعدد مراجعه وأماكن تواجده !
لن نسأل كيف ، ما دمنا لا نمتلك الإجابة !
الاقتراض مستمر بعيداً عن الأضواء ؟ والإصلاحات الاقتصادية التي تمت في السابق كانت إصلاحات مالية هدفها تحصيل المزيد من الضرائب والرسوم !
والأرقام الحقيقية للناتج المحلي ( المؤشر الرئيسي للانتعاش ) غير دقيقة ! فـ كثيرٌ من الأنشطة الاقتصادية تُمارس بعيداً عن السجلات الرسمية ، لا يتم تسجيلها ضمن حسابات الناتج القومي، ومؤشرات التحسن التي تغنت بها بعض الحكومات كانت عبارة عن إنجازات رقمية فقط تعتمد على المنح والمساعدات.
وإذا ما تفحّصنا سندات الخزينة التي تُطرح دون مبالاة ، فإن الخطر يبدو أكثر عمقاً ، فقد اثرت سلباً على كافة المؤشرات الاقتصادية كاداة للتمويل ،، لا اداة للتحكم بعرض النقد والتضخم.
نحن لا نرسم صورة سوداوية لأحوالنا الاقتصادية ، رغم التباين عند البعض في تقييم حجم مخاطرها ، لكننا أذكى من ان نراها وردية ! فكيف لنا تحديث الاقتصاد ونحن نغرق في الديون ؟ ونستضيف حوالي ٥٧٪ جنسية مختلفة يشكلون حوالي ٣٩٪ من السكان ، و ١٥٪ من نسبة لاجئي العالم ، وما هي الجدوى من الاستمرار في الاقتراض ، ما دامت القروض لا تذهب الى مشاريع رأسمالية تحقق عوائد مستقبلية ؟
( الرجوع الى تقرير الشركة الأمريكية للاستشارات المالية Boston Consulting Group الذي قدمته للأردن عام ٢٠١٧ ، بخصوص تقيمها لحجم الدين العام الاردني ! ).
الإصلاح الاقتصادي مسار وليس قرار ، وهو عملية بناء تبدأ بإيقاف التدهور قبل التفكير في التحديث !
لذا فإن أي تحديث للاقتصاد مرهون :
– برفع اليد عن ملف فقر الأردنيين ( ملف الطاقة )
– فك الارتباط السياسي مع مجموعة من الاوليغارشيات ومصاصي الدماء 🙁 بنوك وشركات مالية ، وشركات الطاقة ،، وشركات تعدين القديم منها والجديد ! التي تتمتع بامتيازات ونفوذ سياسي واضح
– اعادة النظر في كافة العقود والاتفاقات التي تمت وفق قاعدة الارتجال والسرية ! ولم تعرض على مجلس النواب ! التي حملت الخزينة العامة خسائر لا يستوعبها خيال ولا عقل !
– العودة الى اقتصاد السوق ،، بإعادة الدولة الى دورها الطبيعي في التحكم والسيطرة وتتبع الأسعار
– إقامة إطار عام لإدارة المخاطر.
– التوقف عن مهزلة منح العطايا وجوائز الترضية التي ارهقت الدولة ودمرّت الادارة العامة ، والتي لا يستوعبها عقل ولا خيال للزبائن والمسؤولين السابقين ! ( من وزير الى عين ! ومن عين إلى رئيس مجلس إدارة ،،، إلخ ! الذين اصبحوا لا يستطيعون الجلوس في البيت بعد تقاعدهم.
الأردن اليوم بحاجة الى عقل سياسي ، والى فكر جديد يتولى صناعة سياسات اقتصادية وبرامج تنموية ،، والى مسار اقتصادي متكامل ، يقوم على إرادة سياسية حقيقية بعيدة عن الزبائنية والدوائر المغلقة ، و عقل يجيد التفكيك كما يجيد التحديث ويؤمن ان الامن يبدأ من رغيف الخبز ، وان مفتاح مستقبلنا الاقتصادي موجود على جانبي الحدود ، وان جودة التعليم هي رافعة للتمكين الاقتصادي ، وان الفقر والبطالة تُفسد أي إصلاح مهما كان نوعه ،،، واعتقد أن كل ذلك لا يغيب عن فكر الرئيس حسان وبعض قليل من وزرائه.
الواقعية تتطلب محاكاة الواقع بالمنطق ! والعربة أمام الحصان تُلخّص المشهد ….. ازماتنا تتزايد وتتضخم دون ان يملك احد جرأة التنبؤ !
جيوستراتيجيك ميديا ما وراء الخبر
