الرئيسية / أخبار / عاد الشرق الأوسط إلى نقطة تقبّل التغيير من دون تظاهرات أو ربيع عربي

عاد الشرق الأوسط إلى نقطة تقبّل التغيير من دون تظاهرات أو ربيع عربي

وقف أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى جانب الرئيس السوري المعين أحمد الشرع على نقطة إطلال مميزة على العاصمة دمشق في أول زيارة يقوم بها زعيم دولة إلى السلطة السورية المشكّلة حديثا. لا غموض في الإشارات في ما يخص الرعاية القطرية لمن أوصل الشرع إلى هذه الإطلالة اللافتة. لا أحد يتقصد أي غموض للإيحاء بأيّ وهم. قطر تستعرض إنجازها. كان الأتراك أذكياء إلى درجة أنهم أفسحوا المجال للشيخ تميم لكي لا يشاركه أحد لحظة النصر هذه. المال القطري كان السبيل الأول نحو الإنجاز بتدمير سلطة عائلة الأسد، أولا وأخيرا. المال والإصرار جعلا آلة التنسيق والدعم التركية تعمل وتنفّذ المطلوب.

من الصعب رصد أي ضابط  من ضباط المخابرات القطرية على الأرض هناك وهم يشاركون الشرع ورجاله فرحتهم بانهيار نظام الأسد. دخول دمشق كان لحظة موغلة في الإنجاز على كل المستويات. كانت تراكما للإنجازات الصغيرة لكن غير المنقطعة. في مكان ما من الدوحة أو إسطنبول، كان هناك من يعد ويحصي هذه الإنجازات ويقول: اصبروا.. انتظروا.. اصبروا. لا نعرف من هذا الذي كان يحصي، لكنه كان دقيقا في تخمين النتيجة. النتيجة أمامهم الآن مجسدة في صورة لزعيمين شابين راهنا على هذه اللحظة. لا يمكن القول بأن الشيخ تميم لم يكن تحت ضغوط، فقط لأنه كان ينفق المال ولا يقدم من أبناء بلده أي قتيل. المراهنة السياسية كانت كبيرة وممتدة لسنوات، من يوم وقف رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني يدق بيده على طاولة اجتماع الجامعة العربية في القاهرة ناقلا رغبة الأمير (الأمير الأب الآن) الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني لطرد سوريا من الجامعة. تلقفها الأمير الشاب لاحقا، ولكن على الرغم من عودة نظام بشار الأسد إلى الجامعة العربية، إلا أن قطر استمرت في مقاطعتها له خلافا لرغبة الآخرين لينتهي الأمر بإسقاط نظامه.

الشيء نفسه يقال بتلوينات أكثر للشرع نفسه. ضع جانبا أعداد القتلى من السوريين. لكن لا مجال لذكر التاريخ الحافل من التغيير لأبومحمد الجولاني (الاسم الحركي للشرع)، فكل شيء فيه يشير إلى المغامرة. هيئته توحي بأشكال قادة حركات التحرر البانديتا (من قطاع الطرق التحرريين في أميركا اللاتينية) أو الزعماء اليساريين الشيوعيين في جنوب شرق آسيا ممن وصولوا وحققوا ما يريدون من “المهمة المستحيلة”، لكن الآن كان عليه أن يزيل وصمة أسوأ شيء يمكن أن يلصق بشخص في عصرنا الحديث: زعيم في القاعدة.

المهم أن كل واحد من الشيخ تميم والشرع كان يقول للآخر: ها قد وصلنا.

أين كان العالم من هذا الإعداد المركب قبل أن تنقض كتائب الشرع على حلب وبقية المدن السورية الكبرى قُبيل دخول دمشق المظفّر؟ من الصعب العثور على إجابة شافية. فلا بد أن عمليات تدقيق ومحاسبة تجري الآن في عدد من الأجهزة السياسية والاستخبارية في المنطقة. كم مما حدث في المنطقة تم عن غفلة وكم منه تم عن تغافل. وهنا لا يمكن استثناء أحد لاعتبارات كثيرة. كانت الأرض تمور بالجواسيس والعملاء وكل متبرع بتقديم معلومات. لكن فات الجميع أن يرصدوا كل ما له علاقة بإرسال المئات من سيارات الدفع الرباعية والشاحنات الصغيرة التي تحمل المدافع الرشاشة المتوسطة والثنائية الثقيلة، من شرائها من وكلاء السيارات اليابانية والكورية المحليين من مدن دول الجوار السوري (وخصوصا تركيا)، إلى إدلب بالتحديد والتدريبات والأجهزة الإلكترونية والمسيّرات الصغيرة المتفجرة والقناصة التي أعيت جنود النظام السوري ودمرت معنوياتهم.

ولئن فات أجهزةَ المخابرات الخليجية والعربية ذلك لوفرة الإمكانيات المالية أو قلتها (بحسب الجهاز الذي تعمل لفائدته)، فأين كان الإيرانيون والروس؟ لا أحد يسأل عن الشبح الإسرائيلي الذي أمعن الإيرانيون في الاستهانة به إلى أن رأوه يحوم في ممرات قصور الضيافة في طهران يجمع المعلومات من غرفة نوم إسماعيل هنية. لا أحد يسأل عن الروسي الذي فهم أن لا غاية ترتجى من بشار الأسد وأنه أضعف من المراهنة عليه، لأنك مهما أبلغته فهو لا يسمع أو لا يفهم.

بالتأكيد أن “طوفان الأقصى” غيّر كل الاعتبارات على الأرض عندما سمح بدخول العامل الإسرائيلي. ومن المفارقات في هذا العامل الحاسم أن الأسد أراد ألّا يستثمره بأي شكل، سواء لاعتبارات ذاتية ترتبط بموقف الأسد من الإخوان بالأصل، أو لأنه أحس أن الوقت قد حان للابتعاد عن المحور الإيراني. لكن لم يستطع الإسرائيليون أن يروا في النظام السوري إلا وكيلا لإيران تأخر التعامل معه طويلا، وخصوصا أنه البوابة التي تمر من خلالها الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله.

في ما عدا الصيغة الاستعراضية لوجود الشيخ تميم في دمشق، فلا شك أن الشيخ تميم والشرع تحسبا للمرحلة القادمة، أو لسلسلة الأحداث التي نراها اليوم تجري أمامنا، وليس آخرها وصول الشرع إلى الرياض ولقائه بالقيادة السعودية. كانت الخطوة متوقعة بالتأكيد، وكان من المهم أن تتحسب لها الدوحة وأنقرة معا. ما لن تمنعه الدوحة هو سياسة الباب المفتوح مع الرياض بالتأكيد، بل والتأكيد على أن تنسيقا سعوديا – سوريا عالي المستوى يجري بين البلدين. السعودية، بثقلها السياسي والمالي إقليميا يمكن أن تذكر الجميع بماضي الشرع القاعدي، وهو الأمر الذي يبدو الجميع راغبا في أن ينساه. وفي ما عدا العراق، وربما لأسباب إيرانية بحتة، فإن جميع الدول العربية لن تقف في طريق أي تطبيع عربي مع نظام يستبدل الأسد الآن، خصوصا وهو يخرج السوريين من أزمتهم المستمرة منذ  سنوات طويلة.

الاستثمار القطري – التركي لا بد أن يعطي ثماره قطريا، ولو تم فتح الطريق الإستراتيجي البري أو سكك الحديد أو وصولا إلى تمديد أنابيب ضخ الغاز بين موانئ العراق الجنوبية على الخليج التي تربط قطر بالمحصلة مع البحر المتوسط، فإن الجميع سيخرجون مستفيدين، بمن فيهم إيران التي لن تبكي كثيرا على الأسد. إيران لا تزال تعيش هول صدمة تفكك حلفها، لكنها قريبا ستصحو من الأزمة وتستعيد رباطة جأشها. الإيرانيون أنفسهم لديهم الكثير مما يحتاجون إلى التفكير فيه.

الأتراك بدورهم يريدون حلولا، وقد تعلموا بسرعة من أخطائهم الكثيرة في المنطقة. الإنجاز السوري يحسب لهم سعوديا على الأقل، خصوصا بعد أن دمرت هيئة تحرير الشام واحدا من أهم أحلاف المنطقة، وهو الحلف السوري – الإيراني، الذي هو في المحصلة حلف مع حزب الله وبهامش إضافي اسمه حماس. لم تتوقف تركيا طويلا في عدادات الربح والخسارة الإستراتيجية، وأدركت أن حماس تبقى هامشا يمكن إعادة تشييده إذا دعت الضرورة.

ثمة معارك هامشية أخرى تتم أو بدأ تحريكها. لعل المشهد السوداني -بمن يقف خلفه-  يعد إحدى هذه المعارك الهامشية. فالجمود في الوضع بالسودان ما كان له من معنى وها قد تحرك الطرفان الرئيسيان، وخصوصا الجيش وداعميه الأتراك في مواجهة الدعم السريع. وعلينا أن نتخيل ما يمكن أن تؤول إليه الأمور في ليبيا لو قرر الطرفان تصعيد أي مواجهة من المواجهات “السياسية” بينهما لتصبح أزمة عسكرية كما شهدنا قبل سنوات.

ما يحدث الآن هو مرحلة إعداد للقادم. المصريون والأردنيون يتحدثون بصوت عال عن مخاوفهم، واليمنيون من خارج الحلف الحوثي أيضا يريدون ضمانات. تبدو أعين الفريقين على الإمارات وسيكون المحك هو الخطوة السورية القادمة، وكم ستكون قريبة أو بعيدة عن أبوظبي.

كل هذه الأطراف تنتظر فرصا لتغيير يأتي لصالحها. مثل هذه الفرص لا يمكن أن تمر من دون تدخلات غربية، كتلك التي يلوح بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب. هذا رجل مستعد لهز المنطقة مرات طالما كانت ستسقط ثمارا من أشجارها تدر مالا أو نفوذا على الولايات المتحدة. هذه الأطراف لا تمانع في مجاراته، طالما ضمنت نأيها عن التغيير.

المنطقة هادئة شعبيا، وتبدو الأمور قابلة للتغيير من دون الحاجة إلى التهييج الشعبي. مر “طوفان الأقصى” وانعكس بتغييرات كبرى، لكنها لم تتم بتظاهرات وربيع عربي، بل بالاكتفاء بمشاهدة الفضائيات والتعاطف مع معاناة الفلسطينيين أو الاستماع إلى هتاف الناشطين على منابرهم على السوشيال ميديا، بما في ذلك يوتيوب.

لن يحدث الكثير إذًا بهز الشارع شعبيا بالتظاهرات، بل بهز الأرض بتحريك الجيوش أو الميليشيات وما بيدها من سلاح ونفوذ.

الشيخ تميم والشرع ينظران من جبل يطل على دمشق ولا شك أن في بالهما صورة لمشهد قادم. فلننتظر وسنرى بدورنا.