لا تزال الولايات المتحدة تصر على عدم وقف المفاوضات بشأن صفقة الأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، وكلما تعثرت جولة في القاهرة أو الدوحة أو أي عاصمة أوروبية، سعت إلى استئنافها، في خضم حرب يصمم رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو على مواصلتها حتى آخر فلسطيني في القطاع. فالجولة التي عقدت في قطر قبل أيام لم تتوفر لها مقومات النجاح ولم تختلف في هيكليتها عن سابقاتها.
وربما كانت الأجواء التي أحاطت بها أكثر تشاؤمًا، حيث اقتصر الحديث عن صفقة متواضعة تؤدي إلى هدنة مؤقتة لمدة يومين ولا تزيد عن عشرة، مقابل الإفراج عن محتجزين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، ممن يحملون الجنسية الأميركية.
تؤكد هذه المعلومة التي جرى تسريبها عمدًا أن الولايات المتحدة تريد تحقيق إنجاز رمزي يساعد المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في الانتخابات المقبلة، ويتم تسويقه باعتباره نجاحًا لإدارة الرئيس جو بايدن التي عملت لأكثر من عام على وقف إطلاق النار في غزة بلا جدوى، لأنها تواطأت في أوقات كثيرة مع نتنياهو لإنجاز مهمته، ولم تكن وساطتها فاعلة بالشكل المطلوب الذي يفضي إلى نتيجة. لكنها تشعر الآن أن هذا التقاعس أو الفشل له مردودات سلبية على المرشحة هاريس، بعد أن تيقنت واشنطن أن نتنياهو يسعى إلى تأجيل أي صفقة لما بعد الانتخابات الأميركية، دعمًا لحليفه المرشح الجمهوري دونالد ترامب.
لم تخفق مفاوضات الدوحة في تحقيق تقدم فقط، بل عززت تواضع ما تريد إسرائيل التفاوض حوله، وقلة حيلة حركة حماس، التي جعلتها تقبل التفاوض على أي صفقة محدودة، بل وضعت الأولى سقفًا مرتفعًا لمطالبها في وقت سابق. وما يكشف الأوزان على الأرض أن نتنياهو لم يكتفِ بهدم غزة وتشريد سكانها وتدمير البنية العسكرية للمقاومة، بل تحلل من قيود وضغوط أهالي الأسرى والمعارضة، ولا توجد مواقف دولية تحضه على تعديل سلوكه، وحوّل الأنظار نحو جبهة لبنان، التي باتت غزة بجوارها شيئًا هامشيًا، مع أن آلة الحرب الجهنمية لم تتوقف يومًا في القطاع.
أنقذ اشتعال جبهة لبنان نتنياهو من الحديث عن مفاوضات جادة حول ما يجري في غزة، وأرسل وفده للدوحة أخيرًا وهو يعلم صعوبة الخروج بنتيجة ملموسة، لكن وفقًا لسياسته أراد الإيحاء بأنه يتجاوب مع نداء التسوية بلا تسوية، خاصة أن الزمان والمكان والحرب وكل شيء تقريبًا، يلعب لصالحه. فلماذا ينخرط في عملية سياسية وهو يضع سيفه على رقبة حماس؟
يجب أن تدرك الحركة خطورة التطورات المتلاحقة التي تقف ضدها، وتعمل على تغيير خطتها التفاوضية، عبر مشاركة السلطة الفلسطينية وفصائل أخرى لتنفي فكرة تمسكها بالاستحواذ على القطاع وتمسكها بفرض هيمنتها الشاملة، وهو أحد المرامي المركزية التي أدت إلى استمرار الحرب حتى الآن.
الميزة التي قدمتها مفاوضات الدوحة أنها وضعت غزة في الضوء مرة أخرى، بعد أن انصب الاهتمام على إيران وجنوب لبنان وحزب الله. وإن لم تحقق تقدمًا، فقد أكدت ضرورة وضع حد للمأساة المتواصلة في القطاع، وهذه قد تنقطع مع تزايد الزخم حول لبنان وفيه، مع وصول المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين للمنطقة الخميس، والذي يحمل في حقيبته معالم مبادرة لوقف الحرب، أو على الأقل تهدئتها، وهو ما ستكشفه الساعات المقبلة، لأن الحديث عن خطة بدا متسارعًا أخيرًا، من دون خداع بإمكانية تطبيقها.
ويكمن الخوف في تحولها إلى عملية سياسية أخرى بلا جدوى، تسعى إلى تجميل وجه إسرائيل ومنحها براحًا من الوقت لترتيب أوضاعها عسكريًا وسياسيًا، وفي الوقت نفسه تستطيع الإدارة الأميركية التي تلملم أوراقها حاليًا أن تروّج لفكرة انخراطها في محاولات وقف إطلاق النار، على المنوال الذي عملت به على جبهة غزة.
تعلم العديد من الأطراف الإقليمية والدولية المتداخلة في جهود التسوية على الجبهتين (غزة ولبنان) أن الأفق السياسي لهما ليس إيجابيًا، وكل الضجيج الذي يدور بشأنهما تقف خلفه أهداف متباينة، أبرزها محاولة منع حدوث انفجار كبير في المنطقة، وجعل الحرب محصورة في نطاق هاتين الجبهتين.
لكن هذه المهمة غير مضمونة، لأن نتنياهو أعلن أكثر من مرة رغبته في إعادة رسم خارطة المنطقة بالشكل الذي يحقق أهدافه الإستراتيجية، ولأن الإدارة الأميركية أصبحت بطة عرجاء فعلاً، ولا تستطيع تحريك أيّ من الملفات المهمة خطوة إلى الأمام. ناهيك عن أن التوقف عند هذه المرحلة يعني أن إيران لم تفقد كل أذرعها الإقليمية، ويمكنها إحياء دورها لاحقًا، وهو ما تدركه إسرائيل التي تعتقد أن الصيد الثمين تكبيل طهران، أو تحجيمها بصورة تساعدها على عدم قيامها بإزعاجها في المستقبل.
لم تتشكل الملامح النهائية للموقف على جبهتي غزة ولبنان بَعْدُ، ما يشير إلى أخذ وردّ، ومدّ وجزر، وحرب ومفاوضات. فالأفق السياسي العام دخل منطقة رمادية، يصعب معه توقع المآلات، ولا يوجد من يدعم الحرب على طول الخط ومن يعمل على وقفها دائمًا. فالحسابات المتغيرة، والتقديرات الغائمة، والتحالفات الخفية، تجعل من مسألة الرهان على خيار محدد عملية عصية، فكلما أنجزت إسرائيل خطوة طالبت بخطوات أخرى أشد قسوة.
كما أن فترة الانتخابات الأميركية، إلى حين تسلم الإدارة الجديدة مهام عملها في يناير المقبل، يمكن التعامل معها على أنها مرحلة ركود، وغالبًا سوف تستمر الأوضاع على حالها، ما يمنح نتنياهو فسحة من الوقت لاستكمال أغراضه، والتفاخر بعدم وجود من يلجمه أو يردعه. فحماس أُنهكت تمامًا، وحزب الله ضعفت قوته، وإيران لن تكون بعيدة عن دخول بيت الطاعة الأميركي للحفاظ على مصالحها.
ولذلك من راهنوا على أفق سياسي في الدوحة كانوا يعلمون صعوبته، ورهانهم الحقيقي انصب على الخوف من مغبة الجمود في غزة، لأن عدم وجود آلية للمفاوضات يساعد على خلق سيناريوهات أشد قتامة.
وتعلم قطر أن هناك مرحلة لحسابها آتية لا محالة بسبب علاقتها الوطيدة مع حماس، وما لم تفتح الدوحة خطوطها مع إسرائيل والولايات المتحدة بالطريقة التي تخفف من وطأة المحاسبة المنتظرة، سوف تتعرض لضغوط كبيرة، ما جعلها تسعى إلى عدم غلق نافذتها السياسية، وتبذل جهودًا لتبقى عرّابة في الحلقات الضيقة، استعدادًا لمرحلة حتما سوف تتغير فيها المعطيات التي بزغ فيها دورها كجهة وسيطة وربما راعية للحركات الإسلامية خلال الفترة الماضية، وتريد حجز مكان لها في المقاعد الأمامية بدلًا من الجلوس في المقاعد الخلفية أو خارج المسرح برمته.