الرئيسية / أخبار / الضاحية الجنوبية.. كيف تحولت من ضاحية المحرومين إلى حاضنة المقاومة بلبنان؟

الضاحية الجنوبية.. كيف تحولت من ضاحية المحرومين إلى حاضنة المقاومة بلبنان؟

لا يذكر اسم حزب الله إلا ويقترن بالضاحية الجنوبية في بيروت، ولا تُذكر الضاحية دون أن يتبادر إلى الذهن حزب الله. هذا الارتباط العميق بين الطرفين جعلهما وكأنهما كيان واحد، متلازمان ومعروفان على المستويات المحلية، العربية، وحتى العالمية. لكن ما هي الضاحية الجنوبية؟ ولماذا توصف بأنها “منطقة المحرومين”؟ ولماذا أغلب سكانها من الشيعة؟ وكيف أصبحت محطّ رعب لإسرائيل؟ والأهم، كيف تحولت من منطقة عشوائية فقيرة إلى لاعب محوري في صناعة القرار اللبناني، بل وحتى في التأثير على علاقات لبنان الخارجية؟

ما هي الضاحية الجنوبية؟

الموقع

تقع الضاحية الجنوبية، كما يوحي اسمها، إلى الجنوب من العاصمة بيروت. إدارياً تتبع الضاحية لمحافظة جبل لبنان، وتغطي مساحة تقارب 28 كيلومتراً مربعاً. تبدأ حدودها من مشارف خلدة في الجنوب، وتمتد شمالاً إلى الجناح والطيونة، ومن الشرق تشمل عين الرمانة والحدث، وصولاً إلى ساحل الأوزاعي غرباً.

كانت الضاحية قبل السبعينيات عبارة عن مجموعة من البلدات وبساتين الحمضيات والزيتون والسواقي، لكن أخذت تتحول تدريجياً إلى مناطق مكتظة مع تزايد حركة الوافدين من الجنوب والبقاع، بسبب الحرب الأهلية والاحتلال الإسرائيلي، خاصة بعد عام 1982 إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان.

لم تعد مجرد تجمع سكني بل صارت منطقة تمتد عبر عدة بلديات وبلدات، مما زاد من أهميتها على المستوى المحلي والإستراتيجي. إذ يقع مطار بيروت الدولي ضمن نطاقها، وهو المنفذ الجوي الرئيسي في لبنان. كما تحتضن الضاحية وزارة العمل اللبنانية والجامعة اللبنانية، وهما مؤسستان حيويتان تسهمان في تعزيز دور المنطقة في الاقتصاد والتعليم على الصعيد الوطني.

الضاحية الجنوبية
الضاحية الجنوبية لبيروت – عربي بوست

تضم الضاحية أحياء عديدة منها: الشياح، الغبيري، المشرفية، برج البراجنة، حارة حريك، بئر العبد، حي السلم، حي فرحات، حي الليلكي، ومنطقة الأوزاعي، المريجة، وتحويطة الغدير. كما تجاور الضاحية الجنوبية مخيمين للاجئين الفلسطينيين، هما برج البراجنة وشاتيلا.

السكان 

في عام 2016، بلغ عدد سكان الضاحية الجنوبية حوالي مليون نسمة، معظمهم من الطائفة الشيعية، موزعين على أكثر من 200 ألف أسرة بمعدل 4.5 أشخاص لكل أسرة. تضم الضاحية أكثر من 150 ألف وحدة سكنية موزعة على 9 أحياء.

وفقاً لمسح إدارة الإحصاء المركزي لعام 2007، تتسم الضاحية الجنوبية بتنوع سكاني ملحوظ، حيث يشكل سكانها مزيجاً من مناطق لبنانية مختلفة. يتركز في الضاحية سكان من قرى الجنوب بنسبة 50.3%، يليهم الوافدون من منطقة البقاع بنسبة 24.3%. كما يقيم في الضاحية سكان من بيروت بنسبة 9.7%، ومن جبل لبنان بنسبة 15%. أما القادمين من مناطق الشمال، فيمثلون نسبة صغيرة تبلغ 0.7%، إضافة إلى 0.1% من سكان يحملون جنسية أخرى.

ويشكل الشيعة 85% من سكان الضاحية الجنوبية، وما يقرب من 10% مسيحيين مارون، 4% مسلمين سنة، و1% أخرى. باستثناء الفلسطينيين الذي تتراوح أعدادهم على التقريب بين 62-95 ألف نسمة في مخيمات البراجنة وصبرا وشاتيلا، كما أن مخيم البراجنة بعد الأزمة السورية 2011 استقبل أعداداً ضخمة من السوريين الفارين من أتون الحرب الأهلية.

تاريخ الضاحية الجنوبية وكيف أصبحت معقل لحزب الله؟

ما يُعرف اليوم بالضاحية الجنوبية لبيروت كان في الأصل مجموعة من القرى الزراعية، أبرزها حارة حريك التي اشتهرت ببساتين الليمون وجمال طبيعتها، وكانت مقرًا لمدارس و إرساليات مسيحية.

وفقاً لمنى فواز، أستاذة في الجامعة الأمريكية ببيروت خلال حديثها لـ BBC، بدأ النزوح إلى هذه المنطقة في أواخر خمسينيات القرن الماضي، خاصة من الجنوب والبقاع، نتيجة الفقر والبحث عن فرص عمل بعد تعطّل الحركة الاقتصادية في الجنوب بسبب قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي.

مع مرور الوقت، توسعت القرى المحيطة ببيروت بين الخمسينيات والسبعينيات، لتتحول تدريجياً من قرى زراعية إلى ضواحٍ للعاصمة. لم يكن يُطلق عليها اسم “الضاحية الجنوبية” في ذلك الوقت، بل احتفظت كل منطقة باسمها الأصلي.

وقد أدت الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975 إلى تسارع النزوح إلى الضاحية، وخاصة منطقة حريك التي تعتبر قلب الضاحية، وتبعد مسافة 5 كم فقط عن بيروت، وتمتد على مساحة 1.82 كم مربع، وتضم إضافة لمراكز الحزب تجمعًا سكانيًا كثيفًا.

الضاحية الجنوبية
أهم أحياء الضاحية الجنوبية – عربي بوست

في مطلع الخمسينيات، كان يشهد لبنان تصاعداً للأفكار القومية واليسارية والاشتراكية، حيث كان البلد مسرحاً لتنافس سياسي بين الرئيس اللبناني كميل شمعون والزعيم المصري جمال عبد الناصر.

وكانت الضاحية الجنوبية في تلك الفترة تميل بشكل واضح نحو النهج الناصري، حيث تبنى سكانها القضايا القومية ودعموا توجهات عبد الناصر، ما جعل خيار الضاحية ناصرياً بامتياز.

ومع حلول عام 1968، بدأت المقاومة الفلسطينية تأخذ دوراً أكبر في لبنان بعد توافد الفدائيين الفلسطينيين إلى البلاد. فوجد أبناء الضاحية الجنوبية في هذه المقاومة صدىً لقضاياهم ومعاناتهم، فانضم العديد منهم إلى صفوف المقاومة الفلسطينية، مؤكدين دعمهم للعمل الفدائي ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وهذا الاندماج مع المقاومة شكل مرحلة جديدة في تاريخ الضاحية، ربطتها بشكل أكبر بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وبالمقاومة المسلحة.

التحول الكبير

وخلال السبعينات شهدت الضاحية تحولاً كبيراً، حين ازدادت أهمية الضاحية مع صعود شعبية الإمام موسى الصدر الذي أسس حركة أمل “حركة المحرومين” أو ما يعرف بـ “حركة أمل”، عام 1974، مما جعل المنطقة مركزاً للثقل السياسي الشيعي في لبنان، فكانت حركة أمل بمثابة المرجعية التي مهدت لاحقاً لتأسيس حزب الله.

في عام 1976، أسس المرجع الشيعي السيد محمد حسين فضل الله أول حوزة دينية سياسية في حارة حريك، مما جعلها مركزاً دينياً مهماً، وبعدها تعددت الحوزات في المنطقة. رغم ذلك، حافظت حارة حريك على بعض معالمها القديمة، بما في ذلك الكنيسة التي لا تزال تقيم الصلوات حتى اليوم.

حفزت احتياجات المهاجرين من أتون الحرب الأهلية في بيروت التضامن الشيعي والاعتماد على الذات، الأمر الذي ركز على عزلة الضاحية الحضرية، وازداد تهميشها، فبدأ المفكرون يبحثون عن حل لواقع المهمشين، وكان موسى الصدر المكفر ورجل الدين الشيعي ذا النزعة اليسارية أول من أطلق عليها “ضاحية المحرومين”، و كانت الضاحية مرتعاً للأفكار اليسارية بصفة عامة، فأطلق عليها اليسار اللبناني، “ضاحية البؤس”.

لكن موسى الصدر أضاف إلى الضاحية بعداً إسلامياً، واستتبع بمرجعيات كبيرة ومؤثرة مثل محمد حسين فضل الله الذي ستولد في كتاباته فكرة حزب الله، الذي أطلق على المنطقة “ضاحية المستضعفين”، وهكذا تحولت صورة الضاحية من منطقة منبوذة وفقيرة إلى منقطة لها هوية سياسية قوية.

في عام 1978، اختفى الإمام موسى الصدر في ظروف غامضة خلال زيارته إلى ليبيا، وهو الحدث الذي ترك فراغاً كبيراً في قيادة المجتمع الشيعي في لبنان.

في تلك الفترة، كانت الثورة الإسلامية الإيرانية قد بدأت بتصدير أفكارها،  فصدرتها إلى سُكان هذه المنطقة من الشيعة، الذين كانوا بحاجة إلى غطاء عقائدي ودعم مادي، خاصة في ظل ظروف الحرب القاسية التي كانت تعصف بالبلاد.

هذا الدعم الإيراني ساهم في تشكيل الهوية السياسية والدينية لسكان الضاحية، حيث كانت الأفكار الثورية الإيرانية تحمل وعداً بالتغيير والدفاع عن حقوق المحرومين.

وكانت المحطة الفاصلة في تاريخ الضاحية في صيف 1982، عندما حاول جيش الاحتلال الإسرائيلي التقدم نحو بيروت عبر الضاحية الجنوبية، من منطقة الأوزاعي والليلكي. حيث تجمعت قوى المقاومة للتصدي لهذا التقدم، ما أدى إلى تشكيل تنظيم المقاومة الإسلامية، الذي أصبح بعدها معروفاً باسم حزب الله.

هذه اللحظة لم تكن فقط بداية المقاومة ضد الاحتلال، بل كانت أيضاً بداية تحول الضاحية إلى معقل رئيسي لحزب الله، مما منحها ثقلاً سياسياً وعسكرياً كبيراً في المشهد اللبناني والإقليمي.

فقد أدت هجمات الحزب لانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من معظم جنوب لبنان عام 2000 باستثناء مزارع شبعا المحتلة، الأمر الذي أكسبه مكانة في لبنان والعالم العربي.

وفي عام 2006 خاض حزب الله حرباً مع إسرائيل، بعد قيامه بشن غارة عبر الحدود قتل خلالها 8 جنود إسرائيليين واختطف اثنين آخرين، وطالب بمفاوضات غير مباشرة تهدف إلى مبادلة سجناء عرب تحتجزهم إسرائيل بهما.

جنوب لبنان حرب 2006/ رويترز

ردت إسرائيل بحرب مفتوحة بدأت بحصار بحري وحملة جوية مكثفة لمدة  33 يوماً، وأدت الحرب إلى استشهاد 1191 شخصاً في لبنان، معظمهم من المدنيين، وإصابة نحو 3700، بينما قتل 121 جندياً إسرائيلياً و44 مدنياً، بينما تفيد تقديرات بأن حزب الله خسر نحو 500 من مقاتليه.

حينها دمرت معظم أحياء الضاحية السكنية وبنيتها التحتية، فقصف الاحتلال الشامل، لم يميز بين المنشآت المدنية والعسكرية، وهذا أصبح الأساس لخطة عسكرية إسرائيلية تُعرف باسم “عقيدة الضاحية”، والتي تعتمد على استخدام القوة المفرطة في أي منطقة تُعتبر مصدر تهديد، دون استثناء أي منشأة، سواء كانت مدنية أو عسكرية.

أول من اعتمد هذا النهج كان رئيس أركان قوات الاحتلال الإسرائيلية السابق غادي آيزنكوت، الذي قاد المنطقة الشمالية خلال حرب 2006. بعد انتهاء الحرب، صرح آيزنكوت قائلاً: “أسمي ذلك نهج الضاحية. إن ما حدث في الضاحية الجنوبية في بيروت خلال حرب لبنان الثانية في سنة 2006، هو ما سيحدث في أي قرية يتم منها إطلاق النار على إسرائيل. سنفعل ضدها قوة غير متكافئة، وسنتسبب بضرر ودمار بالغين.”.وأوضح أن هذا النهج ليس مجرد توصية، بل خطة عسكرية تم إقرارها.

الضاحية الجنوبية
الضاحية الجنوبية في بيروت خلال حرب 2006/ رويترز

لاحقاً، توسع العقيد الإسرائيلي غابرييل سيبوني في شرح “عقيدة الضاحية” في تقرير لمعهد دراسات الأمن القومي، مشيراً إلى أنه يجب، بجانب استهداف القدرات العسكرية لحزب الله، استهداف المصالح الاقتصادية والمراكز المدنية التي تدعمه.

هذا النهج لم يكن مجرد فكرة عابرة، بل تحول إلى عقيدة عسكرية رسمية تتبناها إسرائيل، كما أكدت صحيفة يديعوت أحرونوت، التي وصفتها بأنها “ليست تهديداً من ضابط، بل خطة موافق عليها” ويستخدمها الاحتلال كاستراتيجية بشكل رسمي.

لم تقم الدولة اللبنانية بإعادة إعمار المنطقة بعد حرب عام 2006، بل تركت لحزب الله القيام بذلك، عبر مؤسسة”وعد”، فعقب الحرب، طمأن حزب الله سريعاً أنصاره بأنه سيتم إعادة بناء منازلهم المدمرة، وقد تم الوفاء بوعده إلى حد كبير، وذلك بفضل الدعم الإيراني والتمويل العربي الخليجي لإعادة الإعمار في الجنوب، حسب تقرير لمركز Chatham house البحثي البريطاني.

الضاحية الجنوبية بعد حرب غزة

بعد إطلاق المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، استهدف حزب الله اللبناني الجبهة الشمالية لإسرائيل بعمليات قصف متواصلة من جنوب لبنان، معلناً أنها جبهة إسناد لغزة. فعادت الأنظار إلى الضاحية الجنوبية، التي أصبحت منصة إعلامية للمقاومة خارج فلسطين، حيث كان الناطق باسم حماس يخرج يومياً من هناك لتوثيق الأحداث.

و خلال الأسابيع الماضية، عادت الضاحية من جديد لتتصدر المشهد السياسي والعسكري في لبنان، إذ أصبحت هدفا للغارات الإسرائيلية التي سقط فيها قادة الحزب وحماس.

ورغم أن حزب الله وضع قواعد للاشتباك، بحيث لا يتجاوز القتال مسافة 5 إلى 7 كم على الحدود الجنوبية، لكن الاحتلال الذي لا يلتزم بأي قواعد، وسع دائرة استهدافاته تدريجيا، فطالت الضاحية بأكثر من غارة، بدأتها باغتيال القيادي في “حماس” صالح العاروري، بصاروخ، وصارت تتوسع فيها، بحيث أصبح أي مكان على الأراضي اللبنانية، وليس في الضاحية فقط، هو هدف مشروع لطائراتها.

توسيع رقعة الحرب - الضاحية الجنوبية
هجوم إسرائيلي على الضاحية الجنوبية 2024/رويترز

وبعدها بشهور بدأ الاحتلال في شن سلسلة من اغتيالات في الضاحية الجنوبية، وتلتها غارات في مناسبات عدة على الأراضي اللبنانية استهدفت قادة الصف الأول للحزب، وفي ضربة إسرائيلية ضخمة استهدفت قلب الضاحية الجنوبية، وعند مدخلها لجهة مخيم البرج تم اغتيال الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله ولم تتوقف عمليات القصف الإسرائيلي، فحتى الآن يواصل الاحتلال شن غاراته على الضاحية الجنوبية، منذ بدء تصعيده لعدوانه على لبنان في 23 أيلول الماضي.

مما أسفر عن تهجير أكثر من 1.1 مليون شخص، يضافون إلى 110 آلاف نازح سابقاً. فتحولت العديد من القرى إلى ساحات خالية بعد تنفيذ إسرائيل لتكتيكات الأرض المحروقة وتدمير البنية التحتية. في الأسبوعين الأخيرين، قصفت إسرائيل 4600 هدف في لبنان، مما أسفر عن مقتل أكثر من 2000 شخص وإصابة حوالي 9500 آخرين. وتشير التقديرات الأولية لصور الأقمار الاصطناعية التي حلّلتها “فايننشال تايمز” إلى تدمير أكثر من 3100 مبنى حتى الآن في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع.