مع انطلاق الرصاصات الأولى في الحرب الروسية ضد الهيمنة الغربية في العالم، والتي اتخذت من أوكرانيا المجاورة مخلب قطّ، بدأت حرب اقتصادية متكاملة على روسيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. وقد تصاعدت لحظة بعد لحظة. وخلال 4 أيام فقط، بدا أنَّها شملت جل أوجه الحياة الاقتصادية، بهدف شل الاقتصاد الروسي تماماً وعزل روسا عن مجرى الحياة في أوروبا.
وقد امتدَّت في حملة صليبية مسعورة لتقطع خيوط التواصل الرياضي والتعاون التعليمي بين هذا البلد وبقية بلدان أوروبا الاستعمارية، التي لم تتخلَّص أبداً من هذا التاريخ الإجرامي البشع بحقّ الشعوب والحكومات الراغبة في التحرر من هذه الهيمنة الشيطانية.
هكذا بدا من هذا السلوك الأوروبي والأميركي السريع جداً (وحلف الناتو) أننا بصدد خطة محكمة أُعدت سلفاً، ومنذ سنوات ليست قليلة، من أجل تحطيم المارد الروسي الذي يحاول أن يستعيد تاريخه المجيد، والمؤكّد أنَّ خطة مشابهة جاهزة للانقضاض على التنين الصيني في الوقت المناسب.
ومن يقرأ استراتيجيّة الأمن القومي الأميركي الصادرة في كانون الثاني/ديسمبر 2017 (National Security Strategy)، يستطيع أن يتأكَّد من طبيعة هذا الدور الشيطاني الحاكم للعقل السياسي الأميركي (1).
لقد تفكَّكت الكتلة الاشتراكية التي كانت تضم حوالى 12 دولة بقيادة الاتحاد السوفياتي على أثر تفكّكه في العام 1992، كما تفكَّك الحلف العسكري الدفاعي الَّذي كان يجمعها في العام نفسه تقريباً، ولم يبقَ سوى حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي ظل يضم كلّ دول أوروبا الغربية، إضافةً إلى الولايات المتحدة وكندا، ومن ثم انفرد بالمسرح العالمي، وكان يتدخّل في كل مكان دفاعاً عن مصالح أعضائه، ولو كانت ضد مصالح الشعوب.
هذا ما جرى في أفغانستان، وفي يوغسلافيا السابقة، وفي ليبيا وسوريا والعراق واليمن ودول الساحل الأفريقي وغيرها من دول العالم. وقطعاً، كانت النتائج كارثية بفعل تقسيم بعض هذه الدول، وتفتيت نسيجها الاجتماعي والسياسي، ونهب ثرواتها من دون رحمة أو ضمير.
على أيّ حال، بالعودة إلى نتائج وتداعيات الحرب الاقتصادية الصليبية ضد روسيا الآن، ما حدودها؟ وما مجالاتها؟ وما أساليبها المباشرة وغير المباشرة؟ وما نتائجها الضارة على الاقتصاد والمجتمع الروسي؟ وأخيراً، ما تداعياتها ونتائجها على علاقات روسيا الاقتصادية مع بقية دول العالم، وخصوصاً على الدول العربية؟
أولاً: حدود ومجالات الحرب الاقتصادية الغربية على روسيا
وفقاً للقرارات التي أعلنتها كلّ دول التحالف الغربي، بما ذلك سويسرا المحايدة تاريخياً ومخزن الأموال المسروقة من شعوب العالم، شملت هذه القرارات المجالات التالية:
1- الشخصيات القيادية في النظام والحكم والجيش الروسي. ورغم أنها ليست ذات تأثير مادي ومالي مباشر، لكنها في تقدير الغرب ذات تأثير معنوي، وقد تؤدي إلى تفكّك حلقة القيادة والسيطرة في قمة جهاز الدولة.
2- قطاع المصارف والبنوك، وخصوصاً شبكة ربط النظام النقدي والتحويلات المصرفية عن طريق نظام “سويفت”.
3- مقاطعة التجارة الخارجية الروسية تصديراً واستيراداً من أجل خنق الاقتصاد الروسي.
4- مقاطعة قطاع الطاقة (النفط والغاز) والبحث عن بدائل لهما من مصادر أخرى. وهنا تتبدّى مقدار الانتهازية الاستعمارية للغرب، فهم يسعون للحصار الاقتصادي، لكنهم في الوقت نفسه لم يغلقوا صنبور الغاز الطبيعي الروسي، نظراً إلى حاجاتهم الشديدة إليه في الأجل القصير (سنة إلى 3 سنوات)، حتى يتمكّنوا من إيجاد بديل مضمون ودائم، وبأسعار مناسبة. وهنا، سيكون من أكبر الأخطاء الاستراتيجية للجزائر ومصر وقطر أن تقدم هذه البدائل لأوروبا، ولو كان ذلك متاحاً لديهم، وهو لحسن الحظ غير متوفّر بالقدر الكافي، ولا بالوسائل المتاحة، ولا بالأسعار المناسبة.
5- وقف تدفّقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة من هذه الدول إلى روسيا.
6- الحصار الإعلامي ووقف بث القنوات الفضائية ووكالة الأنباء الحكومية الروسية.
7- الحصار الجوي المدني والتجاري وإغلاق الأجواء الأوروبية أمام الطائرات المدنية والتجارية الروسية.
8- بلغ مقدار الحقد وانعدام الإنسانية إلى درجة مقاطعة الأنشطة الرياضية الروسية وحرمان الفرق الروسية من كل الأنشطة الدولية.
ثانياً: أساليب الحرب الاقتصادية.. الوسائل المباشرة وغير المباشرة
في المرحلة الأولى من الحصار والحرب الاقتصادية، ستمارس هذه الدول أساليب العمل المباشر من خلال مقاطعة الشركات والمؤسسات والكيانات والمصارف والشخصيات الروسية المباشرة. وفي المرحلة الثانية – التي لن تتجاوز غالباً عدة أسابيع – سينتقلون إلى أساليب ووسائل الحصار غير المباشر، من خلال توقيع العقاب والغرامات والمقاطعة على كل الدول والشركات والبنوك والشخصيات التي تقدم على التعامل مع الكيانات الروسية المشمولة بالحصار والحرب.
وهنا، ستتعقّد المشكلة على صعيد عالمي، نظراً إلى انخراط الاقتصاد الروسي منذ 3 عقود على الأقل، وتحديداً منذ صعود جماعة غورباتشوف واليهود الصهاينة الَّذين سيطروا على دفّة العمل والقرار الاقتصادي السوفياتي (تشوبايس وتشرنوماردين) في آليات العمل الاقتصادي الرأسمالي الدولي (2). وسنرى مقدار التشابك والتعقيد حين نطلّ على هيكل الاقتصاد الروسي الحالي، ونمط تشابكاته المالية وتجارته الخارجية مع كل دول العالم.
وقبل أن نخوض في تبيان جوانب ومجالات وحدود تلك الخسائر التي من المؤكّد أنَّها ستلحق بالاقتصاد والمجتمع الروسي، قد يكون من المناسب عرض صورة بانورامية لحالة الاقتصاد الروسي عشية الأزمة الأوكرانية في مطلع العام 2022.
ثالثاً: ملامح الاقتصاد الروسي عشية الحرب الاقتصادية ضدها
يكفينا هنا أن نعرض عناصر القوة والضعف في الاقتصاد الروسي، والتي تتمثل بـ5 عناصر:
1- القدرات الاقتصادية والإنتاجية والموارد المتاحة.
2- التجارة الخارجية وتشابكاتها.
3- التشابكات المالية في العالم الرأسمالي الغربي.
4- الاستثمارات الأجنبية في روسيا، والاستثمارات الروسيّة في الخارج.
5- المديونية الخارجية لروسيا الاتحادية.
فلنتناول كلّ واحدة بشيء من التفصيل:
1- القدرات الاقتصادية والإنتاجية والموارد المتاحة
اقتصاد روسيا هو اقتصاد مختلط عالي الدخل، إذ تملك الدولة القطاعات الاستراتيجية فيه. وقد تعرَّض الاقتصاد الروسي لمحنة حقيقية حين تسلَّطت على الحكم والإدارة في عهد الرئيس المخمور بوريس يلتسن مجموعات المافيا التي تحلَّقت حوله، فجَرت أكبر وأبشع عملية نهب وإهدار لأصول الدولة وشركاتها تحت ما يُسمى برنامج الإصلاح الاقتصادي، الذي كان في جوهره يقوم على بيع شركات القطاع العام وخصخصتها، والّذي كان يعد أكبر وأضخم قطاع عام في العالم، فقامت إصلاحات السوق في التسعينيات بخصخصة معظم الشركات الصناعية الروسية، عدا استثناءات بسيطة في القطاعات المتعلقة بالطاقة والدفاع (3).
تعتبر روسيا من بين الاقتصادات الكبرى في اعتمادها على عائدات الطاقة في النمو الاقتصادي، وهي تمتلك كميات هائلة من الموارد الطبيعية، تشمل النفط والغاز الطبيعي والمعادن النفيسة، والتي تشارك بنسبة كبيرة في الصادرات الروسية. في العام 2012، ساهم قطاع النفط والغاز بنسبة 16% من الناتج المحلي الإجمالي، و52% من عائدات الميزانية الاتحادية، وأكثر من 70% من إجمالي الصادرات (4).
وتظهر قراءة الموازنة العامة الروسية عشية اندلاع الأزمة الأوكرانية في شباط/فبراير 2022 وجود فائض في الموازنة، إذ قدّرت الإيرادات العامة بحوالى 25.02 تريليون روبل روسي (ما يعادل 319.8 مليار دولار أميركي)، مقابل 23.69 تريليون روبل مصروفات (أي ما يعادل 302.3 مليار دولار بسعر الصرف قبل الأزمة، إذ يعادل الدولار 78.24 روبلاً روسياً).
والاقتصاد الروسي هو سادس أكبر اقتصاد في العالم. وبين العامين 2000 و2012، كانت صادرات الطاقة الروسيّة هي المموّل الرئيسي لنمو سريع في مستويات المعيشة، مع ارتفاع الدخل المتاح الحقيقي إلى 160% مقوماً بالدولار. وتقدّر هذه الزيادة بأكثر من 7 أضعاف الدخل المتاح في العام 2000.
ووفقاً لتقرير “الوضع الحالي للاقتصاد الروسي” الذي أعدته وزارة التنمية الاقتصادية الروسية، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في العام 2021 حوالى 1.7 تريليون دولار أميركي، بمعدل نموّ قدره 4.3%، بعد تراجع ما سجله الاقتصاد الروسي بنسبة 2.7% في العام السابق، بسبب جائحة كورونا وما سبّبته من ركود في روسيا ودول العالم أجمع.
وتمتلك روسيا موارد زراعية ضخمة تصل إلى أكثر من 10 ملايين هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، إذ تبلغ عائدات الزراعة السنوية نحو 76 مليار دولار، وبالتالي تعد من أهم القطاعات في الاقتصاد الروسي. وبين العامين 2017 و2018، احتلت روسيا المرتبة الأولي عالمياً في إنتاج الشعير، والمرتبة الأولى في تصدير القمح على مستوى العالم، كما تعد ثاني أكبر منتج لبذور عباد الشمس، وثالث أكبر منتج للبطاطا والحبوب، إضافةً إلى خامس أكبر منتج للبيض ولحوم الدجاج في العالم، ولديها مزارع هائلة لتربية الماشية والصيد البحري وزراعة الغابات، كما يعد قطاع السياحة من القطاعات المهمة من حيث عائداتها المالية. وتمتلك روسيا ثروات طبيعية هائلة من المعادن التي لم تستغلّ تماماً، إذ تقع ضمن المراتب الثلاث الأولى عالمياً من حيث احتياطيات الألماس والذهب والفحم والحديد والبلاتينيوم. ويمثل تصدير النفط والغاز الطبيعي والمعادن مصدراً رئيسياً للعملة الصعبة.
تغطي الصناعة الروسية أنواعاً عديدة من المنتجات، مثل الحديد والمعادن والآلات الزراعية والأسلحة والآلات الدقيقة والأنسجة. ولكي تبقي الصناعة الروسية منافسة للصناعات الأجنبية، لا بد من إعادة هيكلتها. كما تمتلك روسيا صناعة سلاح ضخمة ومتطوّرة قادرة على تصميم معدات عسكرية عالية التقنية وتصنيعها، وتشمل مقاتلات نفاثة من الجيل الثالث والرابع. في النصف الثاني من العام 2013، وصلت القيمة الإجمالي لصادرات السلاح الروسي إلى 15.7 مليار دولار. ومن أهم الصادرات العسكرية الروسية الطائرات المقاتلة ونظم الدفاع الجوي والسفن والغواصات.
وقال التّقرير إنَّ الإنتاج الصناعي والبناء والشحن قدّم أكبر مساهمة في الانتعاش الاقتصادي، فيما تم تسجيل انخفاض في الزراعة بسبب انخفاض محصول الحبوب والبطاطا والخضراوات، وكذلك معدل نمو منخفض في الإنتاج الحيواني (5).
وقد مكّنها هذا التنوع الاقتصادي والقدرات الإنتاجية في كل المجالات من نسج شبكة علاقات تجارية ومالية واسعة النطاق مع كثير من دول العالم، سواء في أوروبا أو دول العالم الثالث أو آسيا والصين. إذاً، نحن إزاء اقتصاد قوي يتسم بالتنوع والقدرات الإنتاجية العالية والقدرة على الاكتفاء الذاتي.
2 – التجارة الخارجية (تصديراً واستيراداً) وتشابكاتها
بلغ حجم التجارة الخارجية لروسيا (تصديراً واستيراداً) خلال العام 2021 حوالى 789.4 مليار دولار، بزيادة نسبتها 37.9% عن العام 2020، وفقاً لما ذكرته وكالة “تاس” الروسية الرسمية، وقد توزّعت كالتالي:
– بلغت صادرات السّلع من روسيا إلى الخارج حوالى 493.3 مليار دولار، بما يعادل ثلث الناتج المحلي الإجمالي.
– بلغت الواردات 296.1 مليار دولار، بزيادة عن العام السابق بنسبة 26.5%.
– حقق الميزان التجاري الروسي في العام 2021 فائضاً بلغ نحو 197.3 مليار دولار، بزيادة نسبتها 88.4% (حوالى 92.6 مليار دولار) عن العام 2020، وفقاً لبيانات الجمارك الروسية.
– بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا في العام 2021 حوالى 33.1 مليار دولار، بزيادة نسبتها 57% عن العام 2020، منها صادرات إلى تركيا بقيمة 26.5 مليار دولار، مقابل واردات بقيمة 6.51 مليار دولار(6).
كما أنَّ التجارة الخارجية بين الصين وروسيا بلغت في العام 2021 حوالى 140 مليار دولار. ومن المقدّر أن تتجاوز 250 مليار دولار بحلول العام 2025، لتصبح الشريك التجاري الثاني والمضمون لروسيا. هاتان الدولتان لن تخضعا علاقتهما مع روسيا للحرب الاقتصادية التي أعلنتها الولايات المتحدة وحلف الناتو ضدها أبداً.
– ومن أهمّ صادرات روسيا النفط الخام، والمشتقات النفطية، والغاز الطبيعي، والقمح، والحديد نصف النهائي، والألومنيوم، والذهب، والنحاس المكرر، والنيكل، والأسمدة النتروجينية، والأسمدة البوتاسيوم، والمواد الكيماوية، والمطاط الصناعي، وسلك النحاس، والخشب، والألماس. وتبلغ حصة روسيا من الصادرات العالمية للنيكل نحو 49%، والألماس 33%، والألومنيوم 26%، والبلاتينيوم 13%، والحديد 7%، والنحاس نحو 4%.
– تنتج روسيا من النفط الخام والمكرر حوالى 11 مليون برميل يومياً في العام 2021، وتصدّر منها نحو 5 ملايين برميل يومياً من النفط الخام، و2.5 مليون برميل يومياً من المنتجات البترولية المكررة (المشتقات)، بما يمثل حوالى 12% من تجارة النفط العالمية، بما يساوي 700 مليون دولار يومياً من النقد النفطي قبل زيادات الأسعار الجديدة الآن بعد كانون الثاني/يناير 2022. وتعتبر روسيا ثاني أكبر مورد للنفط الخام للولايات المتحدة بحجم 100 ألف برميل يومياً، ويشكّل النفط أعلى صادرات روسيا، ويمثل نحو 28% من إجمالي صادراتها.
– تصدر روسيا 23 مليار قدم مكعب يومياً من الغاز الطبيعي (أي 657.1 مليون متر مكعب يومياً)، منها ما يقارب ملياري قدم مكعب في اليوم يمرّ عبر أوكرانيا (أي حوالى 57.2 مليون متر مكعب يومياً) بقيمة 400 مليون دولار آخر يومياً، وبقيمة سنوية تقارب 43.0 مليار دولار في العام 2021 (7).
– يعتبر الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأكبر لروسيا، إذ يمثل 37% من التجارة الخارجية لروسيا في العام 2020، ويعد جزء كبير منه في مجال الطاقة، إذ إنَّ حوالى 70% من صادرات الغاز الروسي ونصف صادراتها النفطية تذهب إلى أوروبا، بينما تمثل المبيعات إلى روسيا حوالى 5% فقط من إجمالي التجارة الأوروبية مع العالم الخارجي.
وكما أشرنا في مقال سابق “التبعات الاقتصادية للأزمة الأوكرانية.. هل هناك بدائل للغاز الروسي؟”، إن أكبر الدول المتضررة من انقطاع الغاز الروسي هي بالترتيب: ألمانيا (16%)، وإيطاليا 12%، وفرنسا 8%، وبيلاروسيا 8%، وتركيا 6%، أي أنَّ 50% من صادرات الغاز الروسي تذهب إلى هذه الدول الخمس فقط، وتأتي بعدها الصين 5%، وهولندا 5%، وكازاخستان 5%، والنمسا 5%، واليابان 4%، والمملكة المتحدة 4%، وبولندا 4%، والمجر 3%، ودول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 10%، ودول أوروبية أخرى غير المنتمية إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 5%، دول آسيوية أخري 3%.
كما أنَّ 92% من صادرات الغاز الروسي تذهب إلى الدول الأوروبية، لتدخل في تشابكات هائلة ومعقدة داخل الاقتصاد الأوروبي، وبين منازل المواطنين في القارة العجوز. وبعد التحالف الاستراتيجي الذي تم التوقيع عليه بين الرئيسين الروسي والصيني في شباط/فبراير 2022، ستتعاظم التجارة المتبادلة بين البلدين، ليوفرا معاً درجةً من الحماية الاقتصادية الاستراتيجية المتبادلة ضد نظام العقوبات الأميركي والأوروبي.
إذاً، إنَّ أهم أسواق التصدير الروسي هي الصين، وهولندا، وألمانيا، وإيطاليا، وتركيا، وبيلاروسيا، واليابان، وفرنسا. وبالنسبة إلى القمح، إنَّ أهم الدول هي مصر والسودان واليمن ولبنان وغيرها. هنا، نستطيع أن نحدد بوضوح مقدار الضرر المتوقع على الاقتصاد الروسي خلال الشهور القليلة القادمة.
من ناحية، لن تستطيع هذه الدول الأوروبية الخمس (ألمانيا – إيطاليا – فرنسا – هولندا – تركيا) توفير بديل في الأجل القصير للغاز الروسي، ويحتاج الأمر إلى 3 سنوات على الأقل لتوفير خط إمدادات للغاز المسال بالسفن من الولايات المتحدة وقطر وأستراليا، وربما النرويج أو نيجيريا، ولن يكون بأسعار معقولة، ما سيؤدي عملياً ومباشرة إلى القفز بمعدلات التضخم وارتفاع الأسعار إلى مستوى شديد الضرر على المواطنين في أوروبا، وكذلك زيادة تكاليف المشروعات.
في المقابل، إنَّ بعض الدّول الأوروبيّة التي تستخدم الغاز الروسي بكميات أقل من 5% تستطيع أن تعوض، ولو جزئياً، نقص إمدادات الغاز الروسي، من دون أن تتمكَّن من تعويض معظم احتياجاتها، وسيؤدي ارتفاع أسعار الغاز إلى تعويض روسيا عن خسارة بعض أسواقها الأوروبية من خلال تسويق جزء من هذه الكمية لدول مثل الصين وبعض دول جنوب وشرق آسيا المتخفّفة قليلاً من الضغوط والهيمنة الأميركية، وبعض دول أميركا اللاتينية المعادية للنفوذ والهيمنة الأميركية، فالنقص في الكميات المسوقة في أوروبا قد يعوّضه ارتفاع أسعار الغاز دولياً بصورة كبيرة جداً.
أما بقيّة السلع الروسية المصدرة في الأسواق الأوروبية، وربما الدولية، فستتعرَّض للتضييق والحصار، ما سيؤدي إلى خفض كبير في عوائد الصادرات من بعض تلك الصادرات. في المقابل، معظم السلع المصنعة التي تستوردها روسيا من الدول الأوروبية ستتقلَّص، ما لم تتوقف، بصورة كبيرة، ما سيؤدي إلى تعطل بعض خطوط الإنتاج في أوروبا أو تقليص إنتاجها، ويؤدي إلى انخفاض في الناتج القومي الروسي على الأقل لعدة سنوات قليلة، حتى تستطيع روسيا تعويض تلك الواردات من أوروبا بغيرها من دول أخرى أو توفير بديل محلي روسي.
3 – التشابكات المالية في العالم الرأسمالي الغربي والاحتياطي النقدي الروسي
يتألَّف احتياطي روسيا الدولي من الذهب والنقد الأجنبي وحقوق السحب الخاصة والاحتياطي في صندوق النقد الدولي، وهو عبارة عن أصول أجنبية عالية السيولة موجودة لدى المصرف المركزي الروسي والحكومة الروسية. وقد سجَّل احتياطي المركزي الروسي في 25 شباط/فبراير 2022 حوالى 643.2 مليار دولار، وهو ما يعدّ رقماً قياسياً، إذ يعادل أكثر من 17 شهراً من عائدات الصادرات الروسية.
كان الرئيس فلاديمير بوتين والقيادة الروسية يعملان منذ عدة سنوات لإزالة تأثير الدولار في الاقتصاد الروسي، ففي العام 2013، كانت روسيا تتلقّى الدولارات مقابل 95% من صادراتها إلى البرازيل والهند وجنوب أفريقيا والصين.
أما في العام 2021، فقد كان 10% فقط من هذه التجارة يتمّ بالدولار. وبدّلت روسيا في معاملاتها التجارية الدولار بالذهب على نحو كبير، إذ راكمت كمّيات كبيرة من الذهب، تبلغ قيمتها، وفقاً لوكالة “بلومبيرغ” للأنباء الأميركية، 134.87 مليار دولار، أو 20% من إجمالي الاحتياطيات، بعد أن كان لديها مليارا دولار فقط من الذهب في العام 1995 (8).
وبدأت روسيا في ربيع العام 2018 بتقليل حجم استثماراتها في سندات دين الدولة الأميركية، وانخفضت هذه الاستثمارات من 96 مليار دولار إلى 48,7 مليار دولار، ثم إلى 14,9 مليار دولار في مطلع العام 2020. وفي آذار/مارس 2020، خفضت روسيا حجم هذه الاستثمارات بمقدار 3 مرات مقارنة مع شباط/فبراير 2020 من 12,58 ملياراً إلى 3,85 مليار دولار (9).
وقد تعرّض جزء من هذا الاحتياطي الموجود في الحسابات المصرفية للبنوك الأميركية والأوروبية للتجميد، ما يسبّب خسارة لروسيا واقتصادها، وإن كانت تستطيع تعويضه من خلال الإجراءات المضادة التي ستتخذها السلطات المالية والنقدية الروسية ضد الممتلكات الأميركية والأوروبية الموجودة في الاقتصاد الروسي.
وهنا، نأتي إلى حجم الاستثمارات الأجنبية في روسيا وهيكلها، وكذا الاستثمارات الروسية في الخارج.
4 – الاستثمارات الأجنبية في روسيا والاستثمارات الروسية في الخارج
أسست الحكومة الروسية صندوق الاستثمار الروسي المباشر (RDIF) في العام 2011، برأس مال قدره 10 مليارات دولار، وهو يعمل بمثابة محفز للاستثمار الأجنبي المباشر لجذب التقنيات إلى روسيا، من خلال جذب شركاء رواد في الاستثمار الدولي المشترك.
وفي العام 2014، تم إطلاق موقع “INVEST IN RUSSIA” كمصدر تفاعلي للمستثمرين الدوليين الباحثين عن وجهة استثمارية. وبلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط والغاز الروسي نحو 33 مليار دولار، ليشكّل المرتبة الرابعة بين أكبر القطاعات المحلية المستقطبة للاستثمارات الأجنبية، وتعّد ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا وفنلندا وبريطانيا أكبر الدول المستثمرة في قطاع النفط والغاز بروسيا، بحسب البيانات الصادرة عن “FDI Markets”، وتعد قطاعات النفط والغاز والزراعة والتعدين أكثر القطاعات جذباً للاستثمار الأجنبي المباشر في روسيا. وقد بلغ حجم الاستثمار الأجنبي في هذه القطاعات الحيوية الثلاثة نحو 91 مليار دولار (10).
كما بلغت استثمارات الشركات الأميركية في روسيا حتى نهاية العام 2021 حوالى 96.05 مليار دولار، وفقاً لتقرير صادر عن غرفة التجارة الأميركية في روسيا بالشراكة مع شركة الاستشارات العالمية “إرنست آند يونغ” (R&Y)، وهي رابع كبريات شركات المحاسبة والاستشارات في العالم (11).
ووصلت قيمة الاستثمارات الأجنبية في قطاع الغذاء والتبغ الروسي إلى نحو 37 مليار دولار حتى العام 2021، ليحتلّ هذا القطاع المرتبة الثانية بين القطاعات الجاذبة للاستثمار الأجنبي في روسيا. أما قطاع التعدين واستخراج المعادن، فقد بلغ حجم الاستثمارات الأجنبية فيه نحو 21 مليار دولار، إذ يحتل القطاع المرتبة الثالثة بين أكثر القطاعات جذباً للاستثمار الأجنبي المباشر في روسيا.
ووفقاً لشركة الاستشارات العالمية (R&Y)، ذهب أكثر من نصف إجمالي الاستثمارات الأجنبية إلى المشروعات الصناعية في روسيا، بينما استحوذت الشّركات الزراعية على حوالى خُمس إجمالي تلك الاستثمارات المتدفقة. وقالت “إرنست ويونغ” إنّ الاستثمار القويّ في صناعة إنتاج الغذاء في روسيا هو نتيجة لسياسة روسيا في استبدال الواردات والحظر على واردات المواد الغذائية الغربية، الذي قُدمِّ كعقوبة فرضت على روسيا، لاستعادتها شبه جزيرة القرم في العام 2014.
وفي العام 2019، تلقّت روسيا 26.9 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بحسب البنك المركزي الروسي. وكانت الحكومة الروسية تخطّط لجذب مزيدٍ من المستثمرين الأجانب، قبل أن يصطدم الاقتصاد العالمي بجائحة كورونا.
قال مستشارون في شركة “إرنست ويونغ” إنَّ روسيا جذبت في العام 2020 أقل عدد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إذ أُنجزت 191 صفقة في جميع أنحاء البلاد، بانخفاض 9% عن العام 2019، وهو الأدنى منذ العام 2014.
واحتلَّت روسيا المرتبة التاسعة في أوروبا من حيث عدد المشروعات، طبقاً لشركة “إرنست ويونغ”، إذ شكّلت 3% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في القارة الأوروبية في العام 2021. وشارك المستثمرون الألمان في معظم المشروعات بزيادة 50% عن العام السابق، بينما تراجعت الولايات المتحدة من المركز الأول إلى الرابع في 20 صفقة فقط، شارك فيها مستثمرون أميركيون العام الماضي.
وقد شكَّل المستثمرون الأوروبيون حوالى 60% من جميع مشروعات الاستثمار الأجنبي المباشر في روسيا، ارتفاعاً من 48% في 2018.كما نمت العلاقات التجارية الروسية مع الصين، فاستثمرت بكين في 22 مشروعاً روسيّاً، وشهد العام الماضي (2021) ثاني أكبر عدد من الصفقات الصينية.
وتسعى روسيا لإنجاز عدد من المشاريع الهادفة إلى تجديد الطرق السريعة والمطارات والسكك الحديدة والموانئ والبنية التحتية حتى نهاية العام 2024، إذ تقدر قيمة المشاريع بنحو 100 مليار دولار، وهي تهدف في الدرجة الأولى إلى تعزيز الربط بين المناطق الروسية وأوروبا وغرب الصين وطريق البحر الشمالي.
وبالنظر إلى المساحة الجغرافية الضخمة لروسيا، وحدودها مع 17 دولة مختلفة، وموقعها المتوسط، وموانئها المتعددة، فهناك فرص كبيرة للاستثمار في هذا القطاع الحيوي، وخصوصاً مع توفر أطر للشراكة بين القطاعين العام والخاص(12).
ومن يراجع أنشطة هذا الصندوق الروسي (RDIF) طوال السنوات الممتدة من العام 2014 وحتى عشية اندلاع نيران الأزمة الأوكرانية ذات الأبعاد العالمية، يكتشف مدى التشابكات الاستثمارية الواسعة النطاق التي تحتفظ بها القطاعات الاقتصادية الروسية المختلفة مع معظم دول العالم.
5 – الدين العام في روسيا
وفقاً لتقارير البنك المركزي الروسي، إنَّ الدين الخارجي لروسيا بلغ في كانون الثاني/يناير 2021 نحو 453.7 مليار دولار أميركي (بما يمثل حوالى 26.7% من الناتج المحلي الإجمالي الروسي)، بعد أن كان 518.1 مليار دولار في العام السابق، بانخفاض 64.4 مليار دولار، مشيراً إلى أنَّ انخفاض الدين الخارجي طال جميع القطاعات المؤسسية. وبلغت حصة الحكومة والبنك المركزي من إجمالي الدين 56 مليار دولار فقط وفقاً لإحصائيات العام 2018، فيما يقع باقي الدين، 398 مليار دولار، على عاتق الشركات والمصارف والأشخاص (13).
وقد نجحت الحكومة الروسية على مدار عدة سنوات، وخصوصاً بعد أزمة القرم في العام 2014 بتقليص الواردات إلى الربع، كما أنها قلصت الاستهلاك غير الضروري. وفي الوقت ذاته، تم التعامل مع ملف الدين الخارجي وخفض مديونيات الشركات بمقدار 35%.
كما أعلن وزير المالية الروسي أنطون سيلوانوف أن الدين الخارجي أقل من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي فهي عند المستوي الآمن. هذه هي الملامح العريضة للاقتصاد الروسي، فكيف لهذا الاقتصاد أن يواجه العقوبات الاقتصادية التي تصل إلى حد الحرب الاقتصادية والسياسية والإعلامية، وحتى الرياضية؟ ومن أين سوف يتسلل الشيطان الأعظم؟ هذا ما سنعرضه في الجزء الثاني من هذه الدراسة.
هوامش ومصادر
(1) National Security Strategy, December 2017 US
(2) وصل الأمر في إطار فوضى الخصخصة في روسيا في عهد الرئيس بوريس يلتسن إلى تعيين الاقتصادي الأميركي Jeffrey Sachs كمستشار للحكومة الروسية. انظرThe Economist July 18.1992، وكذلك The Economist, may 16,1992، وهو ما يذكرنا بما ذكره القرصان الاقتصادي الأميركي جون بريكنز في كتابه المهم “الاغتيال الاقتصادي للأمم”، مرجع سبق ذكره، وكذلك انظر: The Economist , June 1,1991.
وكذلك: أرنست فولف “صندوق النقد الدولي.. قوة عظمى في الساحة العالمية”، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، الكتاب رقم (435)، بتاريخ نيسان/أبريل 2016.
(3) https://arabic.rt.com/business/1323259
(4) https://www.alarabiya.net/aswaq/special-stories
(5) https://www.independentarabia.com/node/133446
(6) https://arabic.rt.com/business/1322314
(8) المصدر: وكالة نوفوستي https://arabic.rt.com/press/1304213
(9) المصدر: وكالة أنباء الإمارات الثلاثاء 2019/10/15.
(10) https://arabic.rt.com/business/1322314
(11) https://ar.investinrussia.com/about
(12) https://arabic.rt.com/business/996334
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.