ليزا حسين اسحق
يكاد تاريخ سورية منذ حصولها على الإستقلال من الإستعمار الفرنسي لا يخلو من الحصار، العقوبات والأزمات الاقتصادية، بالرغم من سعي الحكومات السورية بعد الاستقلال من انتهاج سياسة التقرب من الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت كقوة اقتصادية-عسكرية عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، لم يجعلها ذلك بمنأى عن السخط الأمريكي.
حيث سمحت لمشروع هارولد. ل ايكس المعروف بخط (التابلاين) بالمرور، ووقعت اتفاقية شركة خطوط أنابيب الشرق الأوسط المحدودة مع بريطانيا ،وعززت مواقع الشركات الأمريكية لاسيما (باكتيل) وقعت اتفاقية تمديد أنابيب النفط عبر الأراضي السورية بالاشتراك مع نفط الكويت ووافقت على مشاركة نفط العراق في خط أنابيب لميناء بانياس على البحر المتوسط.
لكن بالرغم من كل ما فعلته الحكومات السورية المتعاقبة (شكري القوتلي، حسني الزعيم، و أديب الشيشكلي) لتحصل على المساعدات الأمريكية العسكرية والاقتصادية، امتنعت أمريكا بشكل قاطع تزويد سورية بالأسلحة خشية على أمن اسرائيل، لا بل إن طرح المساعدات الاقتصادية كان مربوطا ومشروطا دائما بالتبعية السياسية والعسكرية لأمريكا وأبرزها برنامج النقطة الرابعة.
الشعب السوري دائما كان من يفشل أية محاولة للحكومات بالتقارب من النهج الامريكي على حساب القضية الفلسطينية والحق العربي وتغليب المصلحة الإمريكية على حساب الشعب السوري حتى إن الغضب الداخلي من سياسات الشيشكلي أدى لتفجير مبنى المعلومات الامريكي في دمشق 28/ اذار/1952 ما اضطر أمريكا لتقديم مساعدات فنية لاقامة مشاريع اقتصادية، وكانت المساعدات العسكرية مشروطة بعدم استخدامها ضد اسرائيل بل ضد الخطر السوفيتي فقط وبمشورة أمريكية، ما فجر غضب الشارع السوري من جديد على حكومته التي استقالت، ولكن المؤامرة الأمريكية عادت من جديد عن طريق طرح حلف بغداد (1955) الذي رفضته سورية وواجهته بالاتفاق الثلاثي بين مصر سعودية- سورية في آذار/ 1955 هذا التقارب الذي دفع الولايات المتحدة لحالة هستيريا استخدمت كافة الأساليب للقضاء عليه من خلال تحريك الأسطول السادس الأمريكي في بيروت،و دفع تركيا للتهديد بالتدخل العسكري عبر حدودها، والعراق (الهاشمي) آنذاك نصح الولايات المتحدة بقطع عائدات شركة أرامكو الامريكية- السعودية للنفط لإرغام الأطراف لقبول تسوية عربية- اسرائيلية لكسر التحالف الثلاثي والضغط على سورية لدفعها للدخول في حلف بغداد، و بهجوم اسرائيل على مواقع لسورية في منطقة (البطيحة) الشاطئ الشرقي لبحيرة طبريا في 11/ كانون الأول/ 1955.
في كل مرة كان يشتد فيه الخناق على سورية كان صوت الشعب السوري يعلو على الحصار والعقوبات التي استعرت بعد الوقوف في وجه مبدأ أيزنهاور 1957 رغم أن الولايات المتحدة وبريطانيا شددت الخناق على سورية لتجبرها على قبوله لكنها بعد ما لمسته من عناد سوري ثابت حاولت السيطرة على السوريين من باب المشاريع الاقتصادية مثل اقتراح البنك الدولي للانشاء والتعمير مساعدة مالية ضخمة قدرها 40 مليون دولار،عندها احتج آلاف الطلاب السوريين وتطوعوا للدفاع عن أمن سورية وبعض الأحزاب أخذت تطالب بالإتحاد مع مصر (عبد الناصر).
اليوم مصر تمنع ناقلات النفط الإيرانية من العبور عبر قناة السويس ليختنق الشعب السوري بأزمة جديدة من الأزمات التي رمتها على أكتافه الحرب منذ 2011 لتثنيه عن موقفه الوطني الشامخ الذي سبق وذكرناه.
وكأن حلف بغداد يعود بهيئة الناتو العربي- الاسرائيلي بقيادة أمريكا، وكأن أيزنهاور يتجدد بهيئة صفقة القرن، و”الخطر الشيوعي” يتحول “للخطر الإيراني”، والمطلوب من سورية مراجعة اصطفافاتها وألا يكون الخطر الإسرائيلي على قمة الأولويات العربية بل أن يتحول نحو إيران!! لكن بالمقابل إن العراق اليوم يختلف عن عراق نوري السعيد، والمقاومة اللبنانية وإيران موجودة لرصّ الصف السوري رغم الضغوطات والعقوبات من الجانب الامريكي وما تعانيه حاليا من كارثة الفيضانات التي عصفت ب 25 محافظة ولم تستطع استقبال المساعدات النقدية الأجنبية بسبب إغلاق حساب سويفت وحساب الهلال الأحمر الإيراني نتيجة للعقوبات الأمريكية، والمقاومة الفلسطينية التي عانت هي أيضا من الحصار على غزة 2006 بعد نجاح حماس بالانتخابات وقيام مصر بإغلاق المنفذ الوحيد للقطاع ( معبر رفح) وعززت الخناق بجدار فولاذي تحت الأرض عام ،2009 وبنصيحة من محمود عباس 2014 قامت بشق القناة المائية على طول الشريط الحدودي مع القطاع لإنهاء محاولات “التسلل والتهريب”! إن حبل الحصار الإقتصادي يلف على رقبة دول المقاومة محاولا خنق هذا الحلف الذي أرّق الولايات المتحدة وإسرائيل طويلا.
والأزمة الحالية التي تعاني منها سورية قديمة قدم الموقف السوري المشرف الذي تبناه الشعب السوري في المقاومة والنضال منذ قرار التقسيم عام 47، لذا فإن إعادة تشكيل حلف المقاومة المتمثل بسورية-إيران – العراق- حزب الله مهم جداً في التصدي لهذه الحرب الإرهابية وقد شهدنا لبنان الشقيق يمتنع بكل كرامة عن الذهاب لمؤتمر وارسوفي شباط الماضي، ويجبر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو للقدوم بنفسه إلى لبنان ولم يسمح له بالمساس بأمن ووحدة لبنان من خلال التمسك بالمقاومة اللبنانية وما تبعه من زيارة الرئيس اللبناني ميشيل عون ووزيرالخارجية جبران باسيل لروسيا،رسالة واضحة أن لبنان لن يكون ورقة ضغط على سورية كل هذه المعطيات تطفوجلية وبقوة على الساحة السياسية لا تطيقها الولايات المتحدة خصوصا الإدارة الحالية بزعامة دونالد ترامب!
علمتنا أزمة الخمسينيات أن التقرب من الأمريكي كالبعد عنه لابل أسوأ فهو الراعي الحصري للمصالح و الأمن الإسرائيلي ولن يسعى إلا لتحقيق مصالحهما على حساب الشعوب العربية مهما قُدمت لهما من تنازلات ، والشئ الوحيد الذي يمكن أن يردعهما هو وجود تحالفات حقيقة تقف مقابل مخططات التقسيم ما يرعبهم هو وجود تحالفات قوية متينة.
إن سورية التي خرجت عزيزة من محنة الخمسينات ستخرج من الأزمة الحالية أقوى وأكثر صمودا تجارب التاريخ تؤكد ذلك فهذا البلد العظيم الذي وقف لجانب جيشه وقائده رغم كل الهجمات الإعلامية ،العسكرية والاقتصادية و فتح بيوته للفلسطينين ،العراقيين واللبنانيين سوف ينتصر، وهنا لابد من الإشارة لضرورة تفعيل دور السفارات والجاليات السورية للضغط وتعريف الرأي العام العالمي بالإرهاب الاقتصادي الذي تمارسه الولايات المتحدة على سورية، وقد شهدنا أصوات مشرفة من الأشقاء التونسيين أمام مبنى انعقاد القمة العربية في آذار الماضي داعمة لسورية وللرئيس الأسد هذه الأصوات مهمة جدا لأنها صوت الضمير العربي الذي كان ومازال يذلل كل المشاريع الاستعمارية، ولابد من الضغط أيضا على روسيا والصين للقيام بدور داعم أكثر فيما يتعلق بهذا الشأن ولعل مشاركة سورية في مؤتمر يالطا الاقتصادي في جزيرة القرم تدفع باتجاه ما إيجابي بهذا الخصوص.
كاتبة سورية