هل هذه سوريا التي عرفناها، سوريا التي كان يتشارك فيها النساء والرجال، جنبًا إلى جنب، الرقصات خلال الأفراح الريفية. وسوريا الستينات التي كانت تنتشر في شوارعها آخر خطوط الموضة قبل انتشارها في شوارع ميلانو وباريس؟
مقاطع فيديو صادمة تنتشر على تويتر وفيسبوك، تظهر اقتحام حفلات زفاف في ريفي إدلب وحمص من قبل مجموعات أمنية ودعوية إسلامية. أشاهدها وأنا أتذكر أيام الشباب، يوم كانت حفلات الزفاف ملاذًا للضحك والموسيقى. اليوم، تبدو هذه المناسبات هدفًا لتدخل قسري، يثير مخاوف متزايدة من أن تكون سوريا في طريقها لتكرار النموذج الأفغاني، حيث فرضت القيود الدينية على الحريات المدنية. ككاتب يراقب عن بعد، أرى أن هذه المخاوف ليست مجرد هواجس، بل انعكاس لظاهرة تستدعي التوقف والتفكير.
صمت الحكومة وعدم تعليقها على ما يحدث هو أكثر ما يثير المخاوف، وهناك تفسيران لذلك، كلاهما سيء. الأول، أن المسؤولين يرون في هذه الحوادث مجرد ظواهر سطحية يمكن السيطرة عليها لاحقًا، وأن ما يشغلهم اليوم هو أكبر بكثير، وهذا يدفعهم إلى “تجنب إهدار وقتهم الثمين.”
هذا، إن صح، خطأ سيكلف سوريا غاليًا، لأن المخاوف التي تثيرها هذه السلوكيات هي ما يدفع الأقليات للإصرار على تقسيم البلاد.
التفسير الثاني، أن الحكومة راضية عن هذه السلوكيات، وهي تتمسكن مؤقتًا، لتعلن فيما بعد عن سوريا إمارة إسلامية.
أميل أكثر إلى التفسير الأول، وأعتقد أن الحكومة الانتقالية تفضل عدم تشتيت جهودها وترى أن الأولويات تتطلب الانتظار والتفرغ لاحقًا لمواجهة هذه الظواهر والسيطرة عليها.
إذا كنت على صواب، وهذا ما يفكر فيه المسؤولون حاليًا، أتمنى أن يعيدوا التفكير، لأن ما يرونه حوادث فردية جانبية وهو المقياس الذي تقرأ من خلاله الأقليات مستقبل سوريا.
لا نريد من الحكومة المؤقتة أن تضيع جهودها في معارك جانبية، ولكن المعركة مع الجماعات المتشددة ليست جانبية. ويجب مواجهتها بقوانين صارمة تكفل الحريات المدنية، وفي مقدمتها حرية الاعتقاد وممارسة العادات والتقاليد. دون ذلك، ستواجه سوريا سيناريوهين: التفتيت، أو الأفغنة.
البداية كانت مع مقطع فيديو من أريحا بريف إدلب، حيث داهمت قوات أمنية حفل زفاف، وصادرت أجهزة الصوت بحجة إزعاج الأهالي، ما أدى إلى تصادم مع الحاضرين ومظاهرة طالبت بالكرامة. في نفس اليوم، وصلت أخبار عن اقتحام آخر في القريتين بريف حمص، حيث اقتحمت مجموعة دعوية الحفل، وألقت خطبة دينية عبر مكبرات الصوت، وطالبت المدعوين التزام القيم الدينية. شاهدت المقطع، وشعرت بالصدمة وأنا أرى المدعوين ينظرون بدهشة، بينما يُفرض عليهم صمت قسري. هذه المشاهد، التي انتشرت بسرعة على مواقع التواصل، أثارت موجة غضب، واعتبرها المتابعون “تدخلاً غير مبرر في الخصوصية.”
ما يزيد من حدة المخاوف تأثير هذه الانتهاكات على النساء، اللواتي أصبحن هدفًا رئيسيًا لها. شهود عيان تحدثوا عن قيود متزايدة، مثل منع “الشورت” وتضييق بيع الكحول، إلى جانب توقيفات تعسفية في دمشق للأشخاص بناءً على ملابسهم أو علاقتهم بالنساء المصاحبات. هذه المشاهد، التي تتكرر، تشير إلى نمط قمعي يستهدف الحريات الفردية، خاصة المتعلقة بالنساء.
في سياق أوسع، تعرضت مطاعم في دمشق لهجمات من مجموعات مسلحة، وأُبلغ عن حوادث مثل إطلاق النار في ملهى “الكروان”، التي أنكرت السلطة تورطها فيها رغم الدلالات المشبوهة. هذه الانتهاكات، التي تتراوح بين تدخل الأجهزة الأمنية والجماعات المتشددة، أثارت انتقادات حادة للحكومة. ناشطون يرون أنها مؤشرات على انزلاق نحو حكم يقوض التنوع الثقافي الذي ميز سوريا، حيث كانت مثل هذه الحفلات تعتبر رمزًا للفرح وتجسيدا للتراث.
هنا تبرز المقارنة مع أفغانستان، حيث فرضت السلطة الدينية قيودًا صارمة بعد صعود طالبان، مثل حظر التعليم للإناث وفرض الحجاب القسري. في سوريا، الصمت الرسمي حول هذه الحوادث يزيد من الشكوك. فالبعض يرى أن الحكومة “تتمسكن حتى تتمكن،” بانتظار فرصة لتبنّي هذه الممارسات رسميًا. فهذا الافتراض، رغم غياب دليل قاطع، يثير قلق الأقليات والمجتمعات العلمانية، التي تخشى فقدان الحريات المدنية التي حاولت الحفاظ عليها رغم الحرب.
التاريخ يقدم دروسًا. بعد الحرب الأهلية، شهدت سوريا صعود نفوذ فصائل دينية في مناطق مثل إدلب، ما خلق بيئة مواتية للقيود الاجتماعية. وتقارير سابقة أشارت إلى حوادث مشابهة، ما يعزز فكرة أن هذه الانتهاكات قد تكون جزءًا من خطة أوسع. فغياب الرد الرسمي يعزز هذا الخوف، حيث يُفسر كعلامة رضاء أو ضعف في مواجهة الجماعات المحافظة.
البعد عن سوريا لخمسة عقود لم ينسني حفلات الزفاف، حيث كانت الموسيقى تملأ الأجواء، والنساء يرقصن بحرية. اليوم، أشعر بالألم وأنا أرى هذا التراث مهددًا. أعتقد أن هذه المخاوف ليست مبالغا بها، بل هي انعكاس لوقائع تستدعي التدخل. النساء يعانين أكثر، والصمت الرسمي يزيد التوتر.
الحل يبدأ بمواجهة هذه الممارسات. يجب على الحكومة إجراء تحقيقات مستقلة، وضع تشريعات تحمي الحريات، وإشراك المجتمع المدني. الأقليات في حاجة إلى ضمانات، لأن فقدان الحريات يعني فقدان الهوية. دون ذلك، قد تتحول سوريا إلى نسخة أفغانية.
مخاوف أفغنة سوريا ليست خيالًا، بل انعكاس لتحديات حقيقية. فالاقتحامات، القيود على النساء، والصمت الرسمي تشكل إنذارًا. والحفاظ على الحريات هو الطريق الوحيد لاستعادة كرامة سوريا والسوريين.