لم يكن أصحاب أكثر السيناريوهات تفاؤلا يتصورون أن تمر المرحلة الانتقالية في سوريا بمثل هذا الهدوء، وبأقل حجم من الخسائر وردود الفعل.
في بلد طالما نظر إليه العالم على أنه بقعة متفجرة لما يحتويه من طوائف وأقليات، العيون كلها اتجهت إلى منطقة الساحل السوري حيث التواجد المكثف للطائفة العلوية. ما حدث هناك كان مفاجأة للجميع. الحوادث القليلة التي جرت سارع وجهاء الطائفة العلوية وشيوخها إلى تطويقها مندّدين بمن يقفون خلفها، مؤكدين دعمهم للحكومة الانتقالية.
ما حدث مؤخرا في مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية وأدى إلى مقتل شخص وإصابة تسعة أشخاص آخرين، لا يختلف في دلالاته عن حوادث مشابهة جرت في الساحل السوري وتم تطويقها. الاختلاف كان في تدخل إسرائيل على الخط، معلنة أنها ستوفر الحماية للطائفة الدرزية.
دموع التماسيح وسعي إسرائيل لاستمالة الدروز في سوريا، لم ينجح. أبناء الطائفة ووجهاؤها سارعوا إلى رفض الوصاية الزائفة. لم يخف عليهم أن إسرائيل تحاول استغلال الوضع الحالي في سوريا لتحقيق أهداف شريرة بعيدة المدى، وأعلنوا بوضوح أنهم قادرون على إدارة شؤونهم وحل مشاكلهم ولا يريدون أيّ تدخل خارجي في الشأن السوري.
قبل الحديث عن الأهداف المخفية لإسرائيل من وراء إصرارها على “حماية” الدروز، قد يكون مفيدا التعريف بالمدينة التي تقع على أطراف الجنوب الشرقي للعاصمة دمشق وتبعد عنها مسافة خمسة كيلومترات؛ “جرمانا”، وهي كلمة آرامية تعني “الرجال الأشداء”، أتي على ذكرها ياقوت الحموي في “معجم البلدان” وابن بطوطة في رحلاته وداود الظاهري في كتابه “الإيضاح”.
لم يتجاوز عدد سكان جرمانا عام 1959 أربعة آلاف نسمة، من طائفة الدروز، وتزايد العدد مع بدء هجرة مكثفة إليها من السويداء، وبشكل أقل من باقي المحافظات السورية، ليصل عدد سكانها الآن إلى أكثر من 650 ألف نسمة، أغلبهم من الدروز والمسيحيين. واستضافت المدينة خلال الحرب في العراق جالية عراقية كبيرة، وتحولت خلال سنوات الأزمة السورية بعد عام 2011 إلى جنة يحتمي بها السوريون، وكان النظام السوري السابق يكتفي بالمراقبة عن بعد، تلافيا لمواجهة غضب “الرجال الأشداء”.
رغم الإرث الوطني البطولي لأبناء الطائفة الدرزية، طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بتيامين نتنياهو في وقت سابق بجعل المنطقة التي يتواجد فيها الدروز، إلى الجنوب من دمشق، منزوعة السلاح، قائلا “لن نسمح للجيش السوري الجديد بالانتشار في هذه المنطقة، ولن نقبل بأيّ تهديد لأبناء الطائفة الدرزية في جنوب سوريا.”
كلام نتنياهو جوبه بمظاهرات في درعا والسويداء، وردد المشاركون فيها هتافات مناوئة، من قبيل: “حوران (المنطقة الجنوبية من سوريا) حرة حرة، نتنياهو اطلع برة”، و”نتنياهو يا طماع، سوريا ما رح تنباع”، و”اللي بقسم بلده خاين”.
تهديدات مثل هذه لم تكن تطلق ضد إسرائيل أيام حكم الأسد الاب والابن لسبب بسيط، أن إسرائيل لم تكن تشعر بالخطر خلال حكمهما. في الحقيقة، إسرائيل كانت تعتبر نظام بشار الأسد، رغم عداوته المعلنة وحديثه الدائم عن محور المقاومة، أكثر استقرارا، ويمكن التنبؤ بتصرفاته مقارنة بالوضع الحالي مع حكومة أحمد الشرع.
شكل سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 مفاجأة أربكت إسرائيل وفضحت أطماعها في سوريا، حيث سارع جيش الاحتلال الإسرائيلي للتوغل في القنيطرة واحتلال قمة جبل الشيخ السوري.
ولم يخف نتنياهو مخاوفه عندما قال بوضوح إن سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر الماضي لم يكن في “صالح إسرائيل،” وفي اجتماع أسبوعي لحكومته قال بأسى “لم نحصل على الزهور عند سقوط نظام بشار الأسد، لكن لا مشكلة (…) لم نسمح باستخدام الأراضي السورية لمهاجمتنا.” وزعم أن دولة الاحتلال الإسرائيلي أوقفت محاولات إيران لدعم نظام بشار الأسد، واعترف أن هذا السقوط أدى إلى تغيير خريطة الشرق الأوسط.
ضمان أمن إسرائيل، وألاّ تعود سوريا لتشكل تهديدا لها، ترجمته إسرائيل إلى مئات الغارات التي شنتها على مواقع عسكرية في العاصمة دمشق والعديد من المدن الأخرى، ملحقة تدميرا واسعا في البنية العسكرية للنظام السابق.
إسرائيل ترى أن حكومة أحمد الشرع غير مستقرة وتواجه تحديات كبيرة في إدارة التعددية والتنوع في سوريا، وهو ما أكده وصف وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر لحكومة الشرع قائلا إنها “جماعة إرهابية إسلامية من إدلب استولت على دمشق بالقوة،” مؤكدا أن إسرائيل لن تتنازل عن أمنها على الحدود.
براغماتية أحمد الشرع وموقفه المسالم ورغبته في عدم الاصطدام مع الداخل ودول الجوار لم تقنع اليمين الإسرائيلي، الذي فضل التعامل معه بناء على نواياه غير المعلنة، والتي افترضت إسرائيل أنها لن تكون في صالحها في نهاية الأمر.
إسرائيل لا تريد أن تنسى أن أحمد الشرع هو أبومحمد الجولاني، قائد هيئة تحرير الشام، الذي شهدت سوريا خلال فترة قيادته صراعات معقدة وصفتها بالدموية، وتقول إن الشرع يتبنى اليوم، مكرها، نهجا براغماتيا يسعى من خلاله لتحقيق أهدافه السياسية دون الدخول في صراعات غير ضرورية، وأن هذا النهج ساعد الشرع على كسب دعم محلي ودولي لتحقيق الاستقرار في سوريا، إلا أنه لن يضمن أمن دولة إسرائيل وسلامتها.
بناء على هذا التحليل، ومن وجهة نظر نتنياهو وحكومته، تشعر إسرائيل بتهديد أكبر بوجود حكومة أحمد الشرع مقارنة بنظام بشار الأسد، وتعزو ذلك إلى ما قالت إنه عدم استقرار داخل سوريا وإلى التحديات الأمنية الجديدة التي تواجهها الحكومة الانتقالية في المنطقة، وهي ترى أن موقفه المسالم مجرد سياسة تكتيكية مؤقتة تتيح له تحقيق أهداف سياسية وتنموية.
بالطبع، من الناحية القانونية والأخلاقية، لا ينبغي لأيّ دولة أن تتعامل مع الأفراد أو الدول الأخرى بناء على افتراضات ونوايا غير مؤكدة. العلاقات الدولية والسياسات الخارجية يجب أن تستند إلى أدلة وحقائق موثوقة، وليس إلى شكوك وتخمينات وظنون.
لكن، ما يحدث في الواقع السياسي شيء مخالف تماما، الدول غالبا ما تتخذ قراراتها بناء على تقييمات المخاطر والتهديدات المحتملة. إسرائيل، مثل أيّ دولة أخرى، تتخذ إجراءات احترازية بناء على تاريخ الأفراد وسجلّهم السابق، حتى لو لم يكن هناك دليل قاطع على سوء نواياهم الحالية.
واضح أن إسرائيل تفضل التعامل مع أعداء ضعفاء لا يمكن التنبؤ بردود أفعالهم، على التعامل مع أصدقاء عاقلين ولكن أقوياء.
لإكمال فصول المسرحية، تحاول حكومة تل أبيب الضغط بكامل قوتها وتعمل – عكس ما هو متوقع منها – على إقناع الولايات المتحدة بقبول استمرار بقاء قاعدتين عسكريتين لروسيا في مطار حميميم وميناء طرطوس على الساحل السوري، فهذا يمنحها مبررات للإبقاء على التوتر على الحدود، وإبقاء سوريا معزولة عن الدول العربية التي لا ترحب بوجود قواعد عسكرية روسية في المنطقة.
ما تريده الدولة العبرية هو إقناع العالم بوجود مخاطر جدية تهدد وجودها وتبرّر بالتالي ترسانتها العسكرية وتكسبها التعاطف.